يقدم الروائي المصري هاني عبد المريد في
روايته الجديدة "محاولة الإيقاع بشبح" الصادرة أخيراً عن الدار المصرية
اللبنانية، حلولاً لكل مشاكل العالم عبر الحكاية، فالحكاية وحدها قادرة على محاربة
العمى واستعادة الأرواح الضائعة وتحويل الدمى إلى
كيانات بشرية من لحم ودم والانتصار على الواقع وهزيمة الأسطورة، لكن بشرط
أن تختار الحكاية المناسبة، المهم أن تحكي "حتى لو قصصت كل حكاياتك واحدة تلو
الأخرى، حتى تأتي الحكاية التي ينتظرها الجميع بكل شغف"، كما قال على لسان
إحدى بطللات روايته.
ولهذا يقدم هاني عبد المريد تنويعاً جديداً
على سرد "ألف ليلة وليلة"، عبر خطين درامين متوازيين، أحدهما فانتازي
(حكاية هانم وزوجها والعجوز)، والتي تروي فيه حكايات غرائبية لتستعيد عائلتها،
فضلاً عن اللغة الموحية وأسطرة الشخصيات (العجوز على وجه التحديد)، بل إن هانم نفسها تستعين بكتاب "ألف ليلة
وليلة" لتقص منه الحكايات على زوجها.
الخط الآخر واقعي، لكنه يبدو فانتازياً من
فرط غرابته، ويتبادل فيه الخال يونس والفتى يامن الحكايات للانتصار على الحياة وواقعهما
المأزوم، عبر لعبة الكلمات التي تفضي بدورها إلى حكايات أخرى. يقول يامن:
"جاءني خاطر أن الخال ستنتهي حياته يوم تفقد حكاياتي بريقها بالنسبة
له"، ولهذا السبب يلجأ إلى مزج الخيال بالواقع (أليس هكذا تصنع الحكايات)، بل
يتحول إلى "قناص يحاول طوال الوقت الإيقاع بما يرضيه من حكايات" كما يصف
نفسه.
كل من في الرواية يقدم حكايته الخاصة لتجاوز
أزمته، بل إن الرواية نفسها حكاية داخل حكاية، وتنتهي ونحن لا نعرف ما هي الحكاية
المناسبة التي تحتاجها "هانم" لكي تعيد الحياة إلى أجساد زوجها وولديها،
وهكذا يترك هاني عبد المريد الباب مفتوحاً لمحيط لا نهائي من الحكايات الأخرى التي
يجب أن تروى، وهكذا يظل الأمل دائماً معلقاً بالحكاية طريقاً للحياة وللخلاص وللنجاة.
في الرواية، تنقل هانم الحكايات من العجوز
إلى زوجها وولديها، دون أن تعيها أو حتى تحفظها "لم أشعر أنني أحمل حكاية، لم
أشعر بأن لدي ما سأقصه عليهم في البيت حين أعود"، وكأن الغرض من الأمر كله هو
الحكي، هو تلك الكلمات السحرية التي تملك طاقة الشفاء، مثل قراءة كلمات مقدسة غير
مفهومة على مريض ليُشفى، أو أمام باب ليُفتح، كأنها "افتح يا سمسم"، أو
"هابرا كادابرا"، أو غيرها من الكلمات السحرية التي تحمل طاقة الخلق
والتغيير.
غرام هاني بـ "الحكاية" ورؤيته لها
علاجاً موجود في معظم أعماله، فجميع عناوين قصص مجموعته البديعة "أساطير
الأولين"، تبدأ بكلمة "حكاية"، كتأكيد على غرامه بفكرة الحكي
المجردة من أي شيء آخر، وهو ما نجده بشكل آخر في جميع رواياته، فراوي روايته
الأولى "عمود رخامي في منتصف الحلبة" يحكي كي يتذكر، كأن الذكرى التي
تمنحها الحكاية تأكيد على حياته، وبطل روايته الثانية "كيرياليسون" يكتب
مذكراته أو ينقشها على حائط سجنه التخيلي للانتصار على هزيمته، وبطل روايته
الثالثة "أنا العالم"، ينصحه الطبيب بأن يكتب مذكراته كطريق للعلاج ولمقاومة
وحدته وحتى لا ينتهي العالم، وفي روايته الأخيرة ـ والتي تبدو كدرة التاج في هذا
التسلسل ـ تأتي الحكاية كبعث للموتى،
فتلجأ هانم للحكي كي تحول زوجها وولديها من دمى إلى كائنات حية، وهو نفس الفعل
الذي يقوم به يامن في المقابل، فحكاياته تمنح الخال يونس الكفيف عينين، وتجعله يرى
عبرها، بل يمكن اعتبار "الخال" دمية أخرى تحييها كلمات يامن.
في الروايات الأربع، نحن أمام حبيبة غائبة،
غير ملموسة لنا، لا يمكن استحضارها حقيقة إلا من خلال الحكي (سواء كانت ريم
"اسم الحبيبة في روايتين" أو محبوبة محب أو حتى فوفا التي نعرفها في
معظم صفحات هذه الرواية من خلال حكيه عنها واستراقه النظر إليها من وراء الشيش)، وهو
الفعل ذاته الذي تمارسه هانم تجاه زوجها الذي تفتقد وجوده الحسي، ولعل هذا يبرر لجوء
هاني في جميع رواياته إلى صيغة الرواي المتكلم، بما تمنحه هذه التقنية الفنية
للقارئ من قرب من الكاتب، كأنه يجلس بجواره ويسمع حكاياته.
ومن الملاحظ أن العائلة أن تحضر كمكون رئيسي
في جميع أعمال هاني عبد المريد، ففي "عمود رخامي في منتصف الحلبة" نرى
أسرة الراوي المشتتة، وفي كيرياليسون يستعيد الراوي "ناجح" نتفات من
ذكرياته تكشف تفتت ذوات الجميع (الأب الشيخ تيسير والأم الخاضعة والخال القانع بقدره)، والأمر ذاته في "أنا
العالم"، و"محاولة الإيقاع بشبح، حيث العائلة التي تفتتها الظروف، وهو
ما يجعلنا إزاء أبطال مأزومين طوال الوقت، يواجهون أزماتهم بالكتابة (جميعهم يكتب
مذكراته بطريقة أو بأخرى)، كأن غياب دفء العائلة يستعيض عنه الراوي بدفء الحكاية
سواء كان ذلك عبر المونولوج الداخلي أو الديالوج.
يشير هذا أيضاً إلى وحدة العالم لدى هاني عبد
المريد في أعماله، وتطورها أيضاً، وقد أشرنا سابقاً إلى تطور طريقة استخدامه
لمفهوم الحكاية وقدرتها، لكن تشابك العالم الروائي لدى الكاتب يتجاوز هذا لتنويعات أخرى، بداية من شخصية "الخال" ذات الحضور الكبير في
أكثر من عمل، إلى الغرام بتكوين عالم أسطوري، يمكن تلمسه أكثر إذا تتبعنا مجموعاته
القصصية على حدة، إلى إشارات أخرى تربط هذه الرواية التي بين أيدينا بروايته
السابقة "أنا العالم"، التي نرى فيها تحول شخصية كامل القط،
وباقي إخوته إلى كرات من اللحم، وهو ما
نجده بطريقة أخرى في هذه الرواية التي تبدأ بثلاثة من أبطالها قد تحولوا إلى دمى
مطاطية، أيضاً لدينا في الرواية السابقة نبتتات النعناع في صدر الحبيبة، وفي
الرواية الجديدة نجد السيدة التي نبت الريش على جسدها.
يواصل هاني عبد المريد في هذه الرواية ما
بدأه في روايتيه السابقتين "أنا العالم"، و"كيرياليسون"، بل
وفي قصصه القصيرة أيضاً، من خلق عالم خاص به، يتأرجح بين الحقيقة والأسطورة،
الأسطورة التي تقع بدورها بين العبثية والفانتازيا، وربما لترابط هذا العالم ـ
عالم الكاتب ـ بحكاياته وخصوصيته، يشير هاني إلى إحدى قصص مجموعته الأخيرة
"تدريجياً وببطء" على لسان "هانم" بطلة روايته الجديدة، دون
أن يوضح طبعاً أنها له، لكنها إشارة كافية لربط عالمه ببعضه البعض.
في هذه الرواية يرى الخال يونس عبر الحكاية
وحدها، ويستعيد الأب مرزوق وولديه حواسهم كلها عبرها أيضاً. كأن هاني يريد أن يقول
لنا إن الحكاية هي عصا الإله السحرية التي تمنح الحياة، كأنها النبي عيسى الذي
يحيي الموتى، كأنها الروح التي تهب كل جماد نعمة الحياة، كأنه يريد أن يقول إن الحكي
يكفي لمواجهة العالم، ويمكنه أن يكون حائطاً يتكئ عليه الجميع لهزيمة مخاوفهم
وموتهم الافتراضي والحقيقي.
هذه الرواية الجميلة على الرغم من بساطتها، شديدة
التعقيد، ليس فقط لأن الروائي استطاع الحفاظ على تماسكها وشد خيطي طرفيها بينما
يتبادل رواية حكايتين مختلفتين دون أن يسقط الإيقاع من إحداهما، وليس فقط لأنها
تعتمد على تكنيك الحكاية داخل الحكاية، لكن لأننا حتى نهايتها، وبينما نحن منغمسون
في لعبة الكلمات والحكايات التي يمارسها الخال مع "يامن"، لا نعرف إذا
كان قد حكى لنا حكاية الشبح أم لا، و لم نعرف ما هو الشبح الذي يريد هاني عبد
المريد الإيقاع به: هل هو الحكاية، أم الخيال، أم القارئ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق