السبت، 17 مارس 2018

عن الشعر الكامن في "كنائس" أريج جمال

في الصفحة الأخيرة من ديوانه "طغيان سطوة الطوايا"، يشير الروائي والناقد إدوار الخراط إلى أن كل القصائد الواردة في الديوان هي مقطوعات من رواياته "رامة والتنين"، و"الزمن الآخر"، و"يقين العطش"، و"ترابها زعفران"، وأنه أضفى عليها إيقاعات جديدة ـ كانت كامنة في الأصل ـ كي تكتسب بذلك دلالات جديدة  كانت كامنة في الأصل أيضاً.

تذكرت هذا وأنا أتتبع مسارات الشعر المتسرب في نصوص المجموعة القصصية "كنائس لا تسقط في الحرب" للقاصة المصرية أريج جمال والصادرة أخيراً عن دار  "مصر العربية" بالقاهرة، والتي لا توجد في اللغة الشعرية فحسب، بل في ـ أحايين كثيرة ـ في رؤيتها للعالم، من خلال منظور شعري وليس سردياً فقط:

"سأخرج دفتر يومياتي

وأتلو كل شيء على سمع الله

كورد يعتقني من النار

وأقول لقد تغير كل شيء

كل شيء".

من الممكن أن نقرأ الفقرة السابقة باعتبارها مقطعاً من أحد نصوص المجموعة، لكنها تبدو لي أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر، بكل سماتها، بما للغتها من خروج على النمطية المعيارية، وبما لجملها من طاقة إيحائية عالية، بالإضافة إلى تحقيقها شرط بورخيس لصنعة الشعر وهو "العاطفة والمتعة"، فضلاً عن قدرتها على الإدهاش عبر صور شعرية خالصة. تقول أيضاً:

"حين يأتيني النوم

أفقد عقلي بسرعة

أسمع الخطوات البعيدة في الشوارع الجانبية

بلا مبرر واضح

الكلاب التي تنبح

وكأنها أصيبت بالفقد للتو".

يقول بورخيس في كتابه "صنعة الشعر" الذي ضمنه محاضرات ست حول هذا الفن: "إننا نعرف ما هو الشعر، نعرف ذلك جيداً إلى حد لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، أو اللون الأحمر أو الأصفر أو معنى الغضب، أو حب بلادنا، هذه الأشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير إلا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها، وما حاجتنا إلى مزيد من الكلمات؟". ويبدو لي أن هذا القول ينطبق على المقطع السابق وعلى غيره من مقاطع في المجموعة القصصية نرى فيها الكثير من الشعر الكامن.

وربما تعي أريج هذا المعنى، وإن لم تصرّح به، لذا صدرت مجموعتها بمقطع آخر، ذا دلالة، سأتحدث عنها لاحقاً:

"كيس بلاستيكي على طريق سريع

وردي اللون، ينبض في الأعالي

مرة تلو مرة

فرجة على العالم، بلا ألم"

وفي ظني فإن أريج، في هذه المجموعة، وفي مجموعتها الأولى "مائدة واحدة للمحبة" أيضاً، تكسر الحاجز ما بين الشعر والقصة، ولا أعني هنا أنها تكتب "قصة شعرية" ـ إذا كان هذا المصطلح يروق للبعض ـ لكن أقصد أنها تقارب الشعر في كتابتها للقصة، وتقارب القصة بينما هي تكتب الشعر، دون تعمد، وهو ما يحتاج حساسية خاصة في التعاطي مع اللغة والصورة والسرد، إنها ببساطة تحطم الحائط الرابع لكل منهما، من الممكن أن نعتبر هذا سعياً لخلق فن جديد، أو مزيج من الفنين، لكن تفسيره الأقرب يحيلنا إلى رؤية ولغة أريج، المحملتين بالطاقة الشعرية، والتي ربما إن أعادت الالتفات إليهما لاكتشفت في كتابتها بعداً جديداً، لم تره أو تقدّره حق قدره من قبل.

من جهة أخرى، بدت لي المجموعة القصصية "كنائس لا تسقط في الحرب" أقرب لنص واحد طويل، أو عدة نصوص في حالة واحدة، ويمكن رد هذا إلى سببين أولهما أن النصوص جميعها مروية بضمير المتكلم لذات واحدة في أزمنة وأمكنة مختلفة غير مرتبة  لكنها تحمل نفس الهموم، ، وثانيهما وجود روابط بين أكثر من نص، بداية من الحديث عن "فرانكفورت" في نصوص مختلفة انطلاقاً من الإهداء، مروراً بفرجينيا وولف، وانتهاء بتكرار مصطلحات بعينها تمس الذات الراوية.

وفي ظني أن التصدير الذي وضعته الكاتبة للمجموعة، هو عتبة النصوص كلها، والذي تتحدث فيه عن "كيس بلاستيكي على طريق سريع"، يبدو جماداً لمن يراه من بعيد، "ينبض مرة تلو مرة"، إذن فهو كائن حي، "وردي اللون"، ربما ليعطي إيحاء بأنه مؤنث، "فرجة على العالم"، هو لا يتفاعل مع من حوله، بل يشاهد فقط ما يحدث وكأنه من عالم مواز ولا ينتمي إليهم، "بلا ألم"، ربما لأن هذا العالم يراه جماداً بلا مشاعر.

هذا "الكيس البلاستيكي"، الجماد، المتوحد على ذاته، الذي يتفرج على العالم كأنه من كون آخر، يشبه إلى حد كبير بطلة هذه القصص، التي لا نرى فيها حواراً إلا فيما ندر، بل مونولوج داخلي طويل يليق بهذا "الكيس" الواقف على طريق العالم السريع يشاهد ما يحدث في صمت دون أي رد فعل منه، بل إن أول جملة في القصص "تؤرجحنا العربة، تريد أن ترى من سيذهب في النوم"، فالإرادة هنا منسوبة للعربة، والمفعول به هي الأنا الساردة التي تستسلم لهذه الإرادة.

وهذا التماهي مع العالم والاستسلام لإرادته وقوته يحضر في أكثر من نص، مثل قولها: "الآن هو مجرد لا شيء، وأنا أيضاً، لا دليلاً واحداً على حضورنا، نحتاج إلى مركبة فضائية تتلصص على أوضاعنا من خارج الأرض كي نصدق أننا كنا هنا"، والتلصص هنا يبدو لي أن الأنا الساردة هي من تمارسه، سواء على ذاتها أو على عالمها، من مكمنها المعزول نسبياً، والذي لا يراه أحد أو قد يتعاملون معه باعتباره مجرد "كيس" على الطريق، تقول: "ترتدي ملابس عديدة كي يختفي جسدها الحقيقي، لن يروه لكنهم باستمرار سيظنون أنهم يفعلون"، هل يمكن هنا أن نقول إن ثمة مفارقة بين "الملابس العديدة"، و"الكيس البلاستيكي".

لهذا يغيب في هذه المجموعة الصوت، ويحضر "الطنين" و"الدبيب" اللذين تهرب منهما، وتحضر أكثر من لغة: "حضرت دروساً للغة الإنجليزية مع آخرين لا يتكلمون لغتها، تشعر أن لغتها ستتخلى عنها ذات يوم"، لذا لا نرى المحادثات إلا في الأحلام أو عبر الواقع الافتراضي (كانت تدير محادثات إنجليزية كاملة مع غرباء في المنامات)، وتقول أيضاً: "طلبت من الله حياة خافتة دون صوت".

واللغة إذا كانت تعبر عن التواصل، فإنها ليست كافية للحوار: "نحن جزر منعزلة، نملك أجهزة إرسال، لكننا لا نملك أي أجهزة استقبال"، ورغم أنها ترى اللغة كافية للاستئناس "لا أحد يعرف لغتك في الكون، لا أحد يؤنس وحدتك"، إلا أن الطلاقة في الحوارات نراها بلغة أخرى في نصي فرانكفورت.

ولهذا فلا حوارات حقيقية في هذا النص إلا في العالم الافتراضي أو الأفلام أو الأحلام أو عوالم الكتابة، التي تستبدلها بواقعها التي تنأى عنه.

وعالم الأحلام يحضر بقوة في جل نصوص المجموعة ليكمل الحكايات الناقصة، "في المنام أسمعنا نحدد موعداً للقاء"، وليحاول الإجابة على الأسئلة المطروحة، وليعيد بناء العالم على طريقتها، ولهذا ترى المنامات بالتوازي: "تكون في أكثر من منام في اللحظة الواحدة، كل منام مستطيل، ويجاور مستطيلاً آخر تعيش هناك أكثر من الحياة"، ويغدو كأنه عالم متكامل "في المنام رأت كل الصداقات التي كونتها"، بل إنها تستقوي به على وحوش الواقع وما يمكن أن يفعلوه بها: "لاتخافي، ما أنت إلا حلم، لا أحد يستطيع أن يحذف الأحلام من الوجود"، ومع ذلك لا تبدو الأحلام والمنامات حلاً كافياً، تقول: "أحاول لمس يديه، فلا أصل إليهما وأنظر في عينيه فلا أرى أي شيء"، وعندما حاولت أن تنقذ فرجينيا، لم تستطع أن تفيق لتفعل ذلك لأنها علقت في الحلم، وكأنها هنا تكشف عن وعيها بأن الحلم سيظل عالماً موازياً غير حقيقي، لكنه لا يصلح الأشياء المعطوبة

في عالم الأفلام، كما في قصة fin  تشاهد اسمها بين أسماء عناوين الفيلم، ويكون كل همها أن ينتهي الفيلم "نهاية بديعة"، وفي العالم الافتراضي تتحدث مع "الدائرة" التي تكمل الفراغات في قصة حب غير مكتملة. أقوى هذه العوالم وأهمها للذات الساردة هو عالم الكتابة، لأنه يقع بين الحياة والهاوية، ولهذا تحضر فرجينيا وولف في النصوص، ولا يبدو الأمر لي مجرد تماهٍ مع شخصيتها، أو استحضار لطريقة كتابتها أو أفكارها وسردها الباطني، بل يبدو أقرب إلى سؤال حول علاقة الكتابة بالموت الذي تنهي به السطر الأخير من هذه المجموعة.

"الكتابة" في قصص أريج خلق، لهذا فالأنا الساردة تحمل بها: "بطني تكورت وأشعر أن نصاَ كبيراً يكتبني، وأقرر أن أسمي نصي الخاص فرجينيا"، والكتابة قوة وحياة "لأننا حين نكتب لا نعود هشين أبداً، نصنع أيامنا من الفقرات، المدينة التي نعيش فيها من شكل الحروف، السماء التي نخشع أسفلها من الوقع السمعي للكلمات"، ولهذا تغدو الكتابة عالماً مستقلاً يكمل ما لا يحدث في العالم الحقيقي "كنت داخل النص أحادثك"، وتصبح أيضاً مهرباً من قسوة الواقع "بدأت أكتب نصاً جديداً، كنت أختبئ فيه داخلي"، الكتابة هي رد الفعل الإيجابي ـ ربما الوحيد ـ في هذه المجموعة لأنها تشعر فيه بكينونتها، تقول في قصة باب من أحب في يوم الأحد: "ينبغي أن أهدأ لأني الآن أكتب، وهذا دليل قاطع على وجودي"، لهذا تسعى أن تصير "راهبة للكتابة".

في حوار قديم مع أريج جمال قالت: "أطيرُ مع الكتابة بجناح واحد، فينبت جناح آخر من مكان لا أعرفه، وأنجو"، والنجاة التي تتحدث عنها هنا تعيدنا إلى فرجينيا التي لم تستطع أن تنجو رغم الكتابة، لذا تقول الذات الساردة إنها لا تفهم أبداً "لماذا تأتي الهاوية قبل أن تأتي الكتابة". وهذا السؤال يمكن اعتباره إجابة على سؤال: "لماذا فرجينيا؟"، ولماذا هذا الحضور الطاغي لها في هذه المجموعة، هل كان تقاطعاً معها كما في رواية وفيلم "الساعات"، الإجابة في ظني: لأن فرجينيا طرحت بانتحارها إجابة "مقلقة" على سؤال الكتابة والهاوية، وتعتبر الساردة ذاتها ابنة لفرجينيا "الكاتبة"، لكن ليس بالضرورة أن تحصل على نفس إجابتها، رغم أنها تسلك نفس طريقها في الأسئلة؛ أيهما: الكتابة أم الهاوية؟

ومن الجدير بالإشارة هنا، أن العائلة تغيب في هذه المجموعة القصصية، فنحن أمام ذات منغلقة على نفسها ـ ما عدا في نصي فرانكفورت بما لذلك من دلالاته ـ إلا صورة سوداوية في قصة "صورة جديدة"، وظلال للأب في بعض النصوص، لكنها في نص "موت فرجينيا" تقول: "لم أكن يوماً ابنة لأحد، كنت ابنة نفسي، وابنة فرجينيا"، وهو ما يجعلنا نتساءل أيضاً، هل كانت في النص تتحاور مع ذاتها (ابنة نفسي) أم فرجينيا؟.

يبقى سؤال أخير في هذه المجموعة حول اسمها "كنائس لا تسقط في الحرب"، وهو المقتبس يتصرف من أحد نصوص المجموعة، فالكنائس هنا تشير إلى المجتمع الغربي ـ بحسب النص ـ الذي وجدت فيه ذاتها وحريتها وصوتها رغم جهلها لغته، لكن الحرب التي نراها في جل نصوص المجموعة لم تكن حرباً تقليدية، بل كانت مع المجتمع والهوية والعالم وخيباته، بل مع الذات أولاً.

 
 
 

الثلاثاء، 13 مارس 2018

"يوم آخر من النعيم" لـ عبير عبد العزيز.. طريق النص الثالث


كان خوان ميرو ـ أحد أشهر فناني المدرسة التجريدية ـ يقول: "أنا لا أميز أبداً بين الرسم و الشعر، أحياناً أوضح لوحاتي بعبارات شعرية وأحياناً العكس"، وهذه الرؤية لوحدة الفنون وتراسلها تبدو هي الطابع الأغلب لنتاج الشاعرة المصرية عبير عبد العزيز.
في ديوانها الأخير "يوم آخر من النعيم"، تقدم عبير نصوصاً رفقة أعمال أبرز نحاتي السلك في العالم، تتقاطع مع النصوص حيناً، وتكملها حيناً آخر سعياً لتشكيل بصري للنص، غير أن هذا ليس جديداً عليها، فقد قدمت ديوانها الأول "مشنقة في فيلم كارتون" مع صور من فيلم أنيميشن حائز على الأوسكار، وقدمت ثاني دواوينها "عندما قابلت حجازي" مع لوحات للفنان الكبير الراحل أحمد حجازي، وقدمت ثالث دواوينها "بيننا سمكة" مع رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني، وفي كل هذا كانت عبير تقدم الشعر مقترناً بفن آخر يتبادلان الإفادة من إمكانييات كل منهما، سعياً لتمازجهما.
وامتدت هذه الرؤية للشعر في أنشطتها الشعرية الجميلة الأخرى، سواء كانت خاصة بها مثل تقديم الشعر على أقمشة الخيامية مع لوحات حجازي، أو الأنشطة الأخرى التي تلفت بها نظر المجتمع للشعر، بطرق شديدة الجدة والبساطة والعمق في آن، سواء ذلك الذي قدمته في مشروعها "ذات للشعر"، عبر تقديم الشعر مع العرائس المتحركة أو الموسيقى أو حتى إعادة ترتيبه لتقديم نصوص مختلفة تماماً، أو تلك الأفكار المهمة التي قدمتها في مشروعي "استاند شعر" و"ادعم شعر"، في محاولة للوصول بالشعر أبعد من قارئه التقليدي. فلم تكتف بالذهاب بالشعر إلى المدارس، وإلقاء القصائد بل قدمته للطلاب، ولغيرهم في صورة مبهجة، مرة في صورة كروت بوستال، ومرة بأن قرنته مع الأبراج، ومرة في أفلام أنيميشن،  ومرة في بوسترات الأوريجامي وغيرها من الأفكار المدهشة.
إن اللافت في كل ما سبق هو رؤية عبير عبد العزيز للشعر، وهو ما تطلق عليه "الفن الثالث" في مقدمتها لديوانها الأخير حيث تقول "عندما أكتب القصيدة أجدها تستدعي فنوناً متوازية معها لتخلق نصاَ آخر غير المكتوب"، هذه الرؤية التي ترى فيها النص حراً بدون قيود، يمكنه أن يتضافر مع أي فن آخر:
القصائد الحقيقية
بلا ترباس أو قفل او مفتاح
هي فقط
بوابات ونوافذ
متاهات، رحلات لا حصر لها
وفي هذا النص لا ترى عبير الشعر في الحروف المتراصة فوق الورقة فقط، بل في كل شيء، ومن هنا تربطه بالفنون الأخرى، وهذه الرؤية لشعرية العالم ولجماليته، وهو ما يعتبره الفنان والكاتب السوري الراحل "محاولة لخلق جمال جديد يضاف إلى جمال الطبيعة المركّب".
وهذه الرؤية الجمالية للشعر تنتقل بين دواوين عبير عبد العزيز وصولاً إلى ديوانها الأخير، لكن اللافت حقاً في هذا الديوان، هو التطور الشعري لغة وبنياناً وتصوراً، فلم تنشغل عبير بتقديم مشروع موازٍ للقصائد ـ أقصد أعمال السلك ـ عن العناية ببنية القصائد، والتي وإن جاءت مكملة لمشروعها السابق، إلا أنها مختلفة ومتطورة في بنيتها ورؤيتها للعالم.
في هذا الديوان نحن أمام نصوص قصيرة بدون عنوان، تبدو منفصلة متصلة، متقاطعة في أحيان أخرى، متضافرة مع الأعمال الفنية المختارة، لتجد أنك أحياناً تجد أن أحد الأعمال يبدو عنواناً لقصيدة، وفي أحيان أخرى، تضيف إعادة تشكيله في الصفحة، وزاوية تصويره قراءة أخرى للقصيدة، كما في نص "هل يعرف أحدكم الغزالة".
تحضر الغزلان والسناجب والقطط والأشجار والحيوانات والألعاب بكثرة، كأننا نرى العالم من عيني طفل، وعبير عبد العزيز التي بدأت مشوارها مع النشر بكتاب للأطفال، وفي دواوينها الأربعة نجد كتابين للفتيان، تحافظ في هذا الديوان الذي تقدمه للكبار على "عين الطفل" ودهشته أمام العالم.
هناك أطفال
ينفخون البالونات عن آخرها
ثم بدبوس مدبب ينثرون هواءها
ولا يقابل هذا الاهتمام برؤية الطفل، سوى اهتمام مقابل بالحرب، التي تتناثر بنادقها ودباباتها ورصاصاتها على مدار القصائد، بل في واحدة من أجمل نصوص الديوان:
الأمهات وحدهن من تكورت بطونهن
لتحمل الصغار
..
من تكورت دموعهن
على الراحلين بعد المعارك
الأمهات من أرض الوطن
أو من أرض العدو
غير أن الصراع بين هذين العالمين: عالم الأطفال، وعالم الحرب، ينتهي بانتصار الطفولة التي تقتلها الدبابات، ومع ذلك فهم يتعاملون معها بكل عفوية:
ضع الأطفال في معركة
سوف يعتلون فوهات المدافع كأحصنة
يلوحون بأيديهم في الهواء
يجمعون طلقات الرصاص الفارغة
لمعانها يذكرهم
بقطع النقود المعدنية في حصالاتهم.
وتضع عبير عبد العزيز هذين العالمين وجهاً لوجه، عندما  تستحضر أغنية للأطفال من التراث الشعبي، وتعيد تشكيلها بظلال من عالمي الأطفال والجنود:
فكرت أن أرسل ملايين الدببة
للعساكر وهم على أهبة الاستعداد للقتل
لعل الدببة توقعهم في البئر
وحين يدخل الأطفال عالم الحرب، يغدو العالم بلا مستحيلات، لأنها تقدمه برؤية وعين الأطفال الذين "يوقظون الموتى بهزهم هزات قوية، أو جذب أيديهم لأعلى، أو بمحاولة إضحاكهم عن طريق دغدغة بطونهم".
عبير لا تحدد مكاناً ولا زماناً للحرب، لكنها ضد الحرب على إطلاقها، لا تقف في صف ضد آخر، ولهذا فهي في قصيدة "الأمهات" تساوي بين الأمهات من أرض الوطن أو من أرض العدو، ولا تترك للقارئ فرصة لينحاز ضد أحد الفريقين، بل يتعاطف معهن وهن "يحلفن ببطونهن، بدموعهن، بالملابس المتكورة على الأخذ بالثأر"، ثم تتركه في النهاية ليأسى على الأمهات في أرض الوطن والعدو، بعد أن انكمشت قلوبهن بفعل إقامة المعاهدات ونسيان الثأر.
بل إن الجنود  أنفسهم مظلومون، لأنهم يساقون إلى الحرب، ويتحولون من مدنيين إلى مقاتلين مغلوبين على أمرهم، بل إن معظم القصائد رثاء لهؤلاء الجنود ذوي الأحلام الميتة، الذين سيقوا إلى ميادين القتال:
لماذا لا تتركوني أحلم
فالحلم يُبعدني مسافات كبيرة عن مواقع المعارك
التي تعلو فيها  نبرات صوت المقهورين
لا تلقي الشاعرة هنا باللوم بعيداً عن أولئك الموجودين في ساحة الحرب، مهما فعلوا، سواء الممرضات في مستشفى العدو اللائي لا يعرفن  كيف ذهبن إلى ساحة القتال، أو الجنود، الذين يتناقلون الأسرار لأنها ستموت معهم في النهاية:
"ربما الأسرار تتكاتف ذات يوم
لتجبر الجنود  على العودة إلأى بيوتهم
لتجذب الجنود بعيداً عن الساحات
ربما تخفي أقدامهم
فييأس الساسة والقادة
من حلم السيادة والجيش الذي لا يقهر"
في هذا الديوان عجائز ومقعدون وعائدون من الحرب، لا يملكون سوى ذكرياتهم، ليس مهماً في أي جبهة كانوا، فالحرب انتهت وخلفت هموماً ثقيلة، وهذه الصورة التي تتنقل من قصيدة إلى أخرى، تجعلنا أمام  سيناريو لحكاية طويلة، تتوالى صورها في الديوان، لتكمل صورة لعمل فني،لتتواشج الصورة والحكاية مع الأعمال الفنية، ليس فقط لأن "الحواديت سلاحنا الوحيد"، كما تقول الشاعرة، ضد الحرب وتعنت الحياة، بل لأنهما من الفنون الأقرب للوحات المختارة.
وفي هذا العالم القاتم، الذي مات فيه الجنود في الحرب، تحضر "الصديقة" ، التي تخاطبها الشاعرة على مدار الديوان، كأنها ملجأ للروح في عالم مشوه. كعلاقة إنسانية بسيطة، تستحضر رؤية الطفل للأشياء، فترى السوبر ماركت سيدة ضخمة تراقب عن كثب، وتتعامل مع رفوفه المتراصة كممرات ودهاليز "لعبة المتاهة"، وتنظر في المرآة "إلى ذات الرداء الأحمر"، وإلى "سندريلا".
صديقتي، كان السوبر ماركت
في التاسعة صباحاً
سرنا الصغير الذي لم يعلمه أحد
ونحن نكمل اليوم بأعمالنا المعتادة المملة  
ورغم ذلك تبدو الصديقة، التي كانت تجعل ابتسامتها غزالا صغيراً،  جزءاً من الماضي، مثل أولئك "الذين يتحولون إلى أشباح على الطريق عندما تمر العربات بجانبهم أو أمامهم"، لكنها تحضر في الديوان مثل طيف يرف بين قصائد الحرب ليخفف وطأتها بالصداقة التي تصفها بأنه "ذللك الشعور الذي يفصل بين حملي أحلامي، في طريق طويل، ولحظة تضغط علي بشدة، لأقفز من بناية قديمة"، فتبدو كأنها ممر بين الحياة والموت، تمنحه الصديقة للشاعرة لتقف فيه.
من الممكن أن يتسع معنى الحرب في هذا الديوان، لا سيما إذا كان الشعراء هم الجنود، ففي نص أخير نجد الأسلاك الشائكة وهي تحيط بالقصيدة، بكلمات النص البسيطة الواضحة كأنها بيان لرؤيتها الشعرية:
"كم من شعر وشعراء يقيمون الحواجز
يبنون الأعشاش والقصائد
لظلال قصائد خاوية
لكن القصيدة القصيدة
تظل في الخارج".
في ظني فإن هذا ما تريد عبير عبد العزيز قوله في هذا الديوان، بل وفي كل مشروعها الشعري والإنساني، حيث القصيدة تقفز فوق وخارج الأسوار الشائكة، سواء تلك التي تصنعها الحروب أو الحكومات، أو ذواتنا، أو حتى طريقة فهمنا للشعر وللطاقة الكامنة داخله.

الاثنين، 12 مارس 2018

"الست" لـ سمر نور.. أساطير الوحدة في مواجهة وحوش الحياة


تقول الروائية المصرية سمر نور في روايتها "الست" الصادرة أخيراً عن دار العين: "العزلة وهم والوحدة زائفة"، وفي ظني فإن هذه الجملة هي عتبة النص بالكامل.
فالرواية التي تدور حول فتاة تستقل بحياتها، وتجابه "وحوش" الحياة، وتوحشها بأن تلوذ بعزلتها وتشهر وحدتها في مواجهة العيون المتطفلة والأسئلة اللزجة،  تقدم في عدد من فصولها القصيرة شخصيات "وحيدة"، سواء اختارت هذه العزلة أم لا، فلكل شخص منهم مأساته، حتى لو كان جزءاً من مجتمع كبير يموج بالتفاصيل، بداية من القطة التي دهستها السيارة فلم يهتم بها أحد إلى النقاش الذي دهسه قطار العمل مبكراً إلى الجار الذي يخبئ وحدته خلف لزوجته وتطفله إلى رانيا الكوافيرة التي تقبل بالضيم خوفا من حياة جديدة لا تعرف كوابيسها إلى منال التي غنت رق الحبيب لأم كلثوم في المترو إلى الصديقة التي تزوجت وطلقت وحصلت على استقلالها أخيرا، وتعقب الكاتبة على الحالة الأخيرة بأن "هذا حدث منذ سنوات، وربما يحدث كل يوم"، والجملة الأخيرة وإن لم تكن عائدة على الصديقة، فإنها تعود إلى مئات بل آلاف الحالات التي تتصارع يوميا مع وحوش الحياة.
وإذا كانت الشخصيات السابق ذكرها لا تعيش تجربة "الوحدة" بشكلها التقليدي، إلا أنها كلها شخصيات كسرتها الحياة بشكل ما، وأجبرتها على اختيارات لم تكن في حسبانها، فتضطر أن تتفاعل مع تفاصيل أيامها، لكنها تلوذ بآلام وحدتها في النهاية.
تلعب سمر نور على تنويعات "الوحدة"، بما فيها "الاغتراب"، سواء كان داخلياً ـ داخل الذات، أو داخل الوطن، أو حتى خارجه، من خلال شخصية "سمير"، الذي يعاني من غربته خارج البلاد، وحين يقرر العودة إلى وطنه، لا يلبث أن يغادره مرة أخرى في نهاية الرواية، وكأن سمر هنا تطرح سؤالاً كبيراً حول مفهومنا للغربة، وحول ما نريده وما تفرضه علينا سياقات الحياة.
ومن الملاحظ أن لا شخصية تبدو حقيقية تماماً في هذه الرواية، ونابضة بالحياة ونسمع ضحكاتها ونراها وهي تترجرج من الضحك، سوى شخصية سمير، الذي تتكئ عليه بطلة الرواية في همومها، حتى شخصية "الحبيب" تبدو وكأنها بلا ملامح حقيقية، ليس لأنها غير مكتوبة بشكل جيد، بل لأن الكاتبة فضلت أن ترينا ظلالها فقط، في إشارة إلى أن هذا الحب غير المكتمل ربما لم يكن سوى ظلال لمشاعر أخرى، أوأنها شخصية "مشوهة وغير جديرة بالثقة".
تجري الرواية تقريباً في عام ونصف، وهي الرحلة التي استغرقتها البطلة في رحلتها منذ بدأت استقلالها بذاتها، وهي رحلة تتنقل فيها بين ثلاثة عوالم متوازية، العالم الحقيقي الذي قررت أن تنأى عنه وتكتفي بعزلتها، وعالم التواصل الاجتماعي الذي يظل افتراضياً رغم أنه يقطع عزلتها برنات التنويه برسالة على واتس آب أو تعليق على تدوينة على فيس بوك، والعالم الذي اختارت أن تبنيه في شقتها، بداية من اختيار ألوانها إلى موسيقاها إلى مملكة المطبخ، تلك الشقة ، التي فضلت فيها أن تتخلص من كل ما هو زائد عن حاجياتها.
وفي هذا العالم الأخير، تلوذ البطلة بحواسها الخاصة لبناء عالمها، بداية من الصوت (أم كلثوم الحاضرة في الشقة والمترو والشارع) إلى الألوان (اختيار ألوان السماء والبحر والصحراء وبساط العشب للشقة ووأشعة الشمس كأنها تصنع حياة موازية)، إلى الروائح التي تتذكرها فتأمل عليها حياتها بذكريات  ضائعة، إلى علاقتها الخاصة بالنباتات، وكأنها تصنع أرضاً أخرى تخصها هي فقط.
ويظل العالم الافتراضي هو الوسيط بين العالمين الآخرين، فإذا كان الأول قد هربت منه، والأخير قد لجأت إليه، فإن عالم التواصل الاجتماعي يبقى هو الوحيد الذي يكسر خصوصية العالمين، ولذلك تصبح العزلة وهم والوحدة زائفة. تقول: "الخصوصية تنتهي حين تدرك أن شخصا ما في مكان بعيد يمكنه معرفة ما يحدث في بيتك الصغير، حتى وإن فصلت بينكما قارات"، وهي تحاول أن تبني عالماً افتراضياً بديلاً عن العالم الحقيقي رغم إدراكها أن "التكنولوجيا هي مجرد وسيلة بث مباشر لرحلة كوكب الأرض نحو الزوال"، لذا لا تصدق تلك المشاعر المجمدة في أيقونات، وربما تبدو الصداقة مع سمير حقيقية تماماً في انتقالها ما بين العالمين الافتراضي والحقيقي، لأنها بدأت في العالم الواقعي قبل انتقالها بين العالمين بعد ذلك.
ورحلة البطلة نرى الإشارة إليها في ولعها بالنجوم، التي كان يستخدمها العرب في الماضي للاستدلال على الطريق في الصحراء، وهي الصحراء التي تحبها بعد رحلة إلى سيوة مع صديقات من جنسيات مختلفة، كأنهن كن جميعاً يبحثن عن طريقهن في البراح الممتد إلى ما لا نهاية، وتقول في الرواية: "أنا اشبه هذا الجبار، هذا الصياد الذي يبحث عن ضالته في السماء"، وتضيف في موضع آخر: "أكثر النجوم التي كنا نبحث عنها كان الدب القطبي لأنه سيرشدنا للشمال"، وفي الأدب تتجه معظم رحلات الاستكشاف إلى الشمال.
غير أن الرواية لا تقول لنا نتائج هذه الرحلة، وهل وصلت أم لا، لكنها تحكي عن  دليل الرحلة، وهو الولع بالكتابة، رغم أن "الكتابة لم تن أبداً كافية وتصلح للعيش، لكنها كل ما أستطيع فعله، فلنقل إنها كل ما كنت أريد فعله، إنها ابنة اختياراتي في الحياة، فإن لم أعش بطريقتي، فلا معنى لما أكتبه".
والكتابة ليست طريقة للعيش فقط، بل سلاح أيضاً: "كنت أكتب لأقتل وحوشي، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع كل هذا الوجع"، وأحياناً تكون الكتابة محاولة لتقبل العالم وفهمه "ربما أحتاج أن أكتب كي أفهم"، أو كشفاء "نصحني كاتب الاطفال بالكتابة وقال انها ستشفيني من الصدمة"،  غير أنها تصل في النهاية إلى هذه النتيجة "أكتب لأنني أعيش الحياة التي تموج بداخلي، ولن تسكن من جديد إلا إذا توقفت عن الكتابة".
ربما يحيل اسم الرواية "الست" في تلقيه الأول إلى السيدة أم كلثوم، وربما يبرر ذلك أغانيها التي تسمعها بطلة العمل، أو تتسلل إليها من نافذة الجيران، وتقاطعها مع فصول حياتها، غير أني أظن أن اختيار الاسم يبدو أبعد من ذلك، فـ "الست" في الوعي الشعبي المصري هي السيدة، بل إن أم كلثوم أطلق عليها هذا اللقب، ليحيلها إلى رمز للمرأة بشكل عام (ليس الفتاة ولا الآنسة ولا المتزوجة ولا المطلقة ولا العجوز، بل هي السيدة، بما يحمله هذا اللقب من تقديس مبطن)، والست هنا ليست انعكاساً فقط لبطلة النص، بل لكل نساء الرواية المقهورات، الوحيدات، الباحثات عن ذواتهن في صحراء سيوة، المناضلات ضد الحياة، وضد المجتمع بذكوريته، ففي أحد فصول النص، يقول الجار اللزج: "هاتي لي راجل أكلمه"، لكنها تقف وتواجهه حتى تشعر بانتصارها. ورغم ذلك لا أميل هنا إلى تصنيف النص باعتباره أدباً نسوياً ـ الذي يعني وجود أدب رجالي بالمقابل ـ لأن النص يتسع لهم إنساني عام أكثر من حبسه في تصنيف ضيق.
تضع سمر نور الرواية بين قوسين كبير، يبدأ أولاهما في الصفحة الأولى من الرواية، بلقطة عين الطائر السينمائية، حيث تطل من أعلى على عجوز يبحث عن "الاستئناس" بالحديث مع الناس، وينتهي الثاني في آخر صفحة من الرواية، في لقطة ختامية واسعة، حيث تراه يخرج هذه المرة من المول للقاء ابنته برفقة "الوحش"، بكل دلالاته المفتوحة في الرواية.
و"الوحوش" في الرواية، تحتمل أكثر من تفسير، "نتبادل قصص الوحوش التي تطاردنا، يحدثني عن الغربة وأحدثه عن الوحدة"، لكن ربما في إحدى تصوراتها  هي الخوف من الاستقلال والنظرة إلى المرأة. وربما هي وحوش الوحدة التي تحاصرنا رغم كل هذا الضجيح حولنا (الحقيقي والافتراضي)، لكن بطلة الرواية تعرف أنها لن تنتصر على هذه الوحوش سوى باستئناسها، والتعامل معها "إنني أعد نفسي لحياة الوحدة القادمة وأنا بكامل صحتي، أرغب في التعود على الحياة داخل فراغ يخصني أملؤه بما أحبه"، وخلق العالم الخاص الذي يساعدها على مجابهة هذه الوحوش، باختيار ألوانها المفضلة في شقتها/ عالمها المثالي، والاستعانة بقصص وحيدين آخرين نراهم حولنا في كل مكان، فنظن أنهم يضجون بالحياة، قبل أن نكتشف أنهم وحيدون تماماً.
وهنا تستفيد سمر نور، من تجربتها كقاصة، فتقدم فصولاً قصيرة، أقرب للقصص القصيرة، حكايات متضافرة عن هم إنساني مغزول بمهارة لتقدم نصاً روائيا جميلاً، يتنقل بين وحوش الغربة والعزلة والوحدة، قاصداً الإشارة إلى وحش أكبر اسمه "الحياة".

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...