السبت، 9 يونيو 2018

أغنيات آلاء حسانين الجارحة



تهدي الشاعرة المصرية آلاء حسانين، ديوانها الأول "يخرج مرتجفاً من أعماقه"، الصادر أخيراً عن "منشورات المتوسط" إلى طبيبها النفسي (الذي كان بلا فائدة معظم الوقت)، والذي يحضر كذلك بشخصه في قصائد الديوان. وإذا اعتبرنا هذا مفتاحاً يصلح لقراءة الديوان، فإننا يمكن أن نكتشف مع وصولنا إلى الصفحة الأخيرة منه أن الكتابة ـ باعتبارها فعلاً خارقاً ومُنقذاًـ هي الطبيب النفسي الحقيقي الذي ساعد الذات الشاعرة على مصارعة ومحاورة وتجاوز الموت وهواجس الانتحار.
الموت مفتاح آخر، وربما لهذا تأتي العلاقة معه في الديوان مركبة ومعقدة، فعلى رغم التجارب المبكرة معه في حياة الشاعرة، خاصة مع فقدان أحد أصدقائها، وهي التجربة الفارقة التي يبدو أنها غيرت نظرتها للحياة وكل ما حولها، إلا أن تناولها له في الديوان يتجاوز فكرة العداء التقليدي المتوقع، إلى استعارة التراث المصري القديم في العلاقة مع الموت من "متون الأهرام" و"الخروج إلى النهار"، إلى العدودات الاحتفالية بالموت في الجنازات، حيث يبدو الموت بعداً آخر نصله ونكتشفه وقد نصادقه بالغناء والكتابة.
ويمكن أن نعتبر هذا سبباً لاتسام  قصائد الديوان بالغنائية الجارحة، ولا أقصد هنا الغنائية المتأثرة بالإرث الأرسطي، أو السنتمنتالية الزاعقة، لكنها الغنائية التي تجعل القصيدة أشبه بعدودة قديمة في رثاء الحياة وما فيها، وبوابة لفهم أسئلتها الإنسانية الكبيرة، وبمبضع يفتح جراحها فتنطلق قصائدها مثل فراشات تدور حول النار وهي تعرف ما حدث من قبل وما سيحدث من بعد.
يرتبط  بهذا "أيمن ساعي" أحد أكثر الشخصيات وروداً في الديوان، والذي يحضر في الإهداء الثاني مع آخرين، بالإضافة إلى ثلاث قصائد، تتحول فيهم الشاعرة من مجرد "الرثاء" كغرض شعري تقليدي، إلى مساءلة الموت وتحليله، واعتباره مجرد رحلة سنعود منها يوماً، أو الدخول مع الفقيد في محاورة طويلة، حتى لو كانت من طرف واحد، وكأنها بذلك ستنجح في استدعائه، وإقناعه بالعودة:
"يوماً ما
حين تضجر من موتك
وتقرر أن تعود،
حين تفتقد قصائدك،
حربك الشرسة،
ببنادقها وخنادقها
بألغامها، التي كانت لا تنفجر
إلا في قلبك.."
الموت عند آلاء، يأتي كما وصفه الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس: "الموت جمعٌ، وليس طرحاً. فلا شيء يضيع"، فأيمن ساعي باقٍ مع الذات الشاعرة كأنه لم يرحل، تتذكره في في الطرقات بينما تسير مع أصدقائها، وفي مراثيها المتعددة له، وحتى في ذلك يبقى ـ الموت ـ رغم وحشيته ـ مرآة أخرى للعالم، أو حائطاً شفافاً بين عالمين، ليس لأحدهما أفضلية على الآخر، بل تتفتح معه أبواب كثيرة، بل وربما تتحقق أمانٍ لم تستطع تحقيقها لنفسها في حياتها:
"عندما أموت
أريد أن أصير قارباً
وأبحر في الزرقة..."
وتجربة "الفقد" كما يقدمها الديوان شديدة الألم والقسوة، رغم أن الذات الشاعرة تحاول أن تتعايش معها، بعد مرور فترة طويلة على الرحيل كما نرى في "عامان تقريباً يكفيان للحداد على شخص ما"، لكنها لا تنجح في ذلك ألبتة:
"لم تعد الحياة تملك ما تعطيه أكثر
وقد أخذ الموتى كل شيء قبل رحيلهم
وفي بلدة كهذه
لا يجد الناس شيئاً يتحدثون عنه
والعودة بعد الموت لم تعد أمراً مهماً.."
تفقد آلاء هنا الأمل، وتعتبره "تفاهة"، لكنها لا تفتأ تواصل حزنها، وتذكّر الراحلين، والخوف على من يحيطون بها من أن يصيبهم الأذى، مثلما فعلت في قصيدتها البديعة "حلقٌ مكتظٌ برثاء طويل"، بل ومحاولة بث الصبر في قلوب من حولها، كما تفعل مع حبيبة الصديق الراحل:
"ثم نسير ونحن نربت بأكفنا الباردة
على قلوب بعضنا
ثم نعاود النفخ فيها من جديد
ونحن نقول بشيء من المواساة
لحبيبته ريتا
التي لا تقول شيئاً غير الصمت
وتهز رأسها بشكل حزين بعد كلامنا
الذي تعرفه مسبقاً.."
هنا تفتح آلاء جرحها إلى نهايته في مواجهة المرآة، فكلامها ليس موجهاً للحبيبة، بقدر ما هو موجه لذاتها، هذه المواساة التي تعرف حروفها مسبقاً لكنها تقولها في كل قصيدة رثاء تكتبها كي تعالج نفسها، وهكذا تتنقل الشاعرة ما بين الأمل واليأس والرجاء والخيبة، حتى تصل إلى إدراك حقيقتها الخاصة، بعدم جدوى الحياة، وتساويها مع الموت:
"لم يحب أحد الحديث عن الرفاق الطيبين
وغالباً فضلنا لو أنكرنا وجودهم
لم يعد الموت بطولة ولا الحياة أيضاً
وامتلكنا أقداراً متساوية من اليأس والحزن والضجر"
هنا تتحول الذات الشاعرة إلى متفرجة على العالم، فتبدو القصائد كأنها نزف، وتأتي الكتابة على حد السكين، وتظهر ثاني شخصيات الديوان أهمية "ريتا غراهام"، لتقودها من محاورة الموت إلى انتظار نهاية العالم بعد أن "قالا كل ما يجب أن يقال سابقاً، أو لم يقولا شيئاً، لأنهما يعرفان مسبقاً، كل ما يريد الآخر أن يقوله"، وهو الوصف الذي يتقاطع مع ما كَتبته مسبقاً عن "التربيت" بالحديث مع ريتا، ورغم اختلاف الحالتين إلا أنها تدرك فيهما تساوي الصمت والكلام، كما نرى في "شخصان يدليان أقدامهما على حافة العالم"، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان:
"ها نحن أخيراً نجلس على حافة العالم، مشبكي الأيدي
بسعادة طفل وطفلة قبلا بعضهما
للمرة الأولى
ونحن نقول في سرنا
هكذا إذن تكون النهايات
ها هي النهاية أخيراً"
تستقبل الذات الشاعرة النهاية بسعادة وثقة من جرب كل شيء، من ذاق الموت والحياة،  من خبِر كل شيء فوصل إلى مبتغاه مطمئناً.
لكن لا يمكن تجاوز ما مضى، من حديث عن "الموت" و"انتظار النهاية"، دون الحديث عن "الحرب" التي تلقي بظلالها على الديوان، ليس فقط كونها سبب رحيل "أيمن ساعي"، لكن لأنها أحد الهواجس الرئيسية لدى الشاعرة، التي ترى حروباً تدور حولها دون سبب، وترى نفسها وأصدقاءها في قلبها ضحايا لها دون مبرر "نحن الذين لطالما عشنا دائما، كأكياس الرمل بين فصيلين متحاربين"، ثم تكشف مأساوية الأمر كله بقولها:
"وحين كان يفض الرصاص قلوبنا
لم يكن أي من الفصيلين
يبكي علينا"
والألم هنا ـ وفي الديوان عامة ـ ليس بالضرورة ألمها هي، بل ألم الآخر، فها هي ترثي ذاتها، وكل أصدقائها مبكراً، لأنها تعرف أن هذه الحرب ـ غير المفهومة وغير المبررة ـ لن تبقي على أحد ليدبج قصائد الرثاء:
"ها نحن الذين بكينا من أجلنا طويلا
لأنه ويا للأسف
ما من أحد خلفته هذه الحرب
ليبكي علينا"
والقصيدة عند آلاء ـ رغم أجواء الموت ـ متمردة فتذكرنا بآرتور رامبو، وثائرة فتذكرنا بلوركا، متشردة تزحف في الشوارع فتذكرنا بالماغوط. لا أقول إنها تشبههم، لكنها تأخذ منهم جنونهم وعصيانهم ورفضهم وتمردهم، وهذا التمرد ليس مرتبطاً فقط برفض سياسي، بل برفض الواقع ذاته، واقعها، أحزانها، أتراحها، موت الأصدقاء، المجتمع المُكبِّل:
"خذ معولاً
واضرب عميقاً في قلبي
اقطع جذر هذا الحزن
خذ معولاً أكبر
واضرب جذر رب البيت
شرد هذه العصافير الحزينة
دع هذه الأغصان تتهاوى.."
فالذات شاعرة هنا ترى الحزن جاثماً حتى على العصافير التي ترمز للحرية والبهجة، لكنها لا تستسلم له، بل تضحي بكل شيء من أجل الانعتاق، والخروج من هذه البوتقة المغلقة، من أجل تجربة جديدة، تجرب فيها كل ما نتحاشاه، من دفن الأم والحياة دون أب في الصورة، وموت أمام المداخل أو في المداخن، وبرد الأصابع والعيش بهويات مسروقة وتبديد الحياة في الحانات ومحطات المترو، فكل هذه اللاحياة قد تغدو حياة مناسبة، إذا غادرت حياتها المزيفة التي تعيشها
"دعني أغادر هذا الزيف
دعني أتشرد.."
والتشرد هنا ثورة، ورفض للواقع، وللإنسانية المنهارة ذاتها، لذا هي تحرض عليها طول الوقت:
"انقذوا العالم
وفكروا كيف تخيطون ثقب الأوزون
انجبوا أبناء
وراقبوهم كيف يكبرون
ثم ابكوا لأجلهم حين يتخرجون
أو يموتون صغارا
في حوادث السير".
ولذا فهي أيضاً تحلم بموت أسطوري، ليس على طريقة الثائر لوركا فتنطفئ كنجمة في منتصف عمرها أوتختفي جثتها كصافرة، لكن على طريقتها الخاصة كما يليق بمتشرد:
"سأموت أمام الجميع
عارية ووحيدة، جافة كغصن
أو ملقاة على شاطئ كسمكة صغيرة
سأموت أمام الجميع
ولن يلقي  علي أحد حبة رمل واحدة
سيجف جسدي
وينكمش أمام الجميع
وأبداً أبداً
لن يهبط أحد على وجهي ويغمض عيني"
والموت بهذه الطريقة الأسطورية ثورة في حد ذاتها، كأن التشرد والتمرد وجهان لعملة واحدة، فمفارقة الواقع والإتيان بفعل غير متوقع ـ في كليهما ـ هو ما تسعى إليه، كما تقول في قصيدتها "أيتها الثورة":
"سأصير شبحاً، أو طائراً
سأصير أي شيء"
والثورة أيضاً هي مساءلة كل المسلمات: الطمأنينة التي غادرت، القصص التي صدقتها صغيرة، ثم اكتشفت عندما كبرت كذبها، انعدام الأمان والصراع المذهبي والطائفي، حيث الله الذي كان يتسلل إلى صندوق ألعابها لييرتبه، يقف في مكان آخر:
"كان الله يقف في ساحة
يحمل سيفاً
وينفذ أحكام القصاص
على بعد شارعين من المنزل
عندما كبرنا قليلا
لم يكن أحدنا يجرؤ على أن يفكر بالله
دون أن يتحسس رقبته"
ديوان آلاء مشحون بالقلق الوجودي، ربما بسبب تجارب الموت والغربة والمرض وأجواء المجتمع المغلق، التي تطغي على الديوان، ومن أجل هذا تبرز الأسئلة الوجودية حول العلاقة بالله، بل إن أحد الأقسام الستة للديوان، تذخر بعشرات الأسئلة، وكأنها تتمثل ما ذكره رامبو في "فصل في الجحيم": "كنت أكتب فراغات الصمت، والليالي، كنت أسجل ما لا يُسجل، كنت أثبت الدخان". هذا ما تفعله الشاعرة في هذا القسم من مساءلة المأزق الإنساني وعبثية الحياة والموقف الجمالي تجاه مأساوية الحياة.
ولعل هذا يحيل إلى أحد مفاتيح الديوان المتمثلة في عنوانه ما بين "الخروج"، و"الأعماق"، فالارتجاف المصاحب للخروج هنا، هو ارتجاف نفسي ناجم عن قلق الاكتشاف وحيرة الوصول، كأنها تتحرر في خروجها من كل ما علق بها صغيرة من أكاذيب ومسلّمات، قبل أن تدرك مع الوقت أن الحياة لا تعمل هكذا:
"الذي يدفع إنساناً
لأن يصير نبياً
أو شاعرا مثلاً
أو حتى قاتلاً مأجوراً
هو القلق
القلق من ألا يتذكره أحد"
هنا يحضر الشعر كعلاج نفسي، بديل للطبيب عديم النفع، يصبح هو الحبل الذي تتعلق فيه الذات المرتجفة إلى خارج أعماقها، حتى تقف فوق أعلى تبةٍ وترى العالم كله خواء، شديد الاتساع، لكن تستطيع قصيدة شعر أن تسعه.
ولأن الشعر هو الطبيب البديل، تستعير آلاء في قصائدها لعبة الأقنعة والأصوات المستعارة، والذوات المختلفة عبر الشاعر/ الرائي الذي يقدم نصاَ ذا طبيعة تخييلية ليست مرتبطة به بالضرورة. فالذات الشاعرة في الديوان وعبر هذا التحرر الجمالي لا تعود إلى الشاعرة في كثير من القصائد، بل بعضها مذكر يخاطب حبيبته وبعضها مؤنث لا يشبه الشاعرة، وبعضها يتحدث بصيغة الجمع، بعضها غارق في مونولوج ذاتي وبعضها يتحدث في ديالوج مع العالم، في بعضها نجد الأب أكثر قرباً من أي شيء، وفي بعضها يكون الآباء هم سبب التعاسة والسأم المتزايد والصباحات الغائمة، في بعضها نحن إزاء أمهات منكسرات وفي بعضها الآخر عكس ذلك. تتخفى الشاعرة خلف هذه الذوات المتعددة، لتفتش عن إجابات أخرى للحياة، ولتقدم شعراً خالصاً يتخلص من اتهامه بأنه نسوي أو ذكوري، شعراً إنسانياً ينشغل ـ لا سيما في القصائد الأخيرة من الديوان ـ بالحديث عن الإنسانية الضائعة. ولا أظن أن آلاء قصدت أن تتخلص بهذا التعدد من إشكالية الذات الكاشفة في شعر المرأة العربية التي اعتاد البعض الحديث عنها، بقدر ما أن الأمر مرتبط بلحظة الكتابة الملتبسة، حيث أرادت أن تفتح باب الشعر على مصراعيه، مازجة بين الواقعين الخاص والعام، والذاتي والكوني و"الأنا" الشعرية والكاتب الضمني.
وإذا كان  الإدهاش ـ في ظني ـ هو أحد وظائف الشعر الأساسية، فإننا نرى ذلك بجلاء في ديوان آلاء حسانين، فهي تتخلى عن الصور التقليدية في الشعر، بل وحتى عن طرق كتابة قصيدة النثر المعتادة التي صارت أشبه بالكلاشيهات، وتترك القصيدة تختار طريقها، ويمكن القول إن القصيدة في هذا الديوان، تأتي كما وصفها بيلي كولينز "رحلة تخيلية إلى هدف لا أستطيع التنبؤ به، ولكنني أعرفه فوراً عندما تجد القصيدة طريقة لإنهاء نفسها"، وهو الأمر الذي ينطبق على الصورة الشعرية منفردة أيضاً:
يسقط الدمع من عيني ريتا
كأنه قطعة نرد تتدحرج
فتتهدل  معاطفنا عن ظهورنا
نحن هنا أمام مشهد سيريالي، تسقط فيه الدموع، فيحدث انعكاس ذلك في شكل البشر، وهذا البناء التراكمي للصورة الشعرية يبدو أحد سمات قصيدة آلاء، تقول أيضاً:
"وحين كنا نحدق معاً نحو شيء بعيد
كنت ألمح غرقي كثيرين
يرسون على شطآن قلبه"
تتمثل هنا الرؤية الجمالية في بناء الصورة لدى الشاعرة، التي تعتمد على المشهدية من جهة، والإدهاش من جهة أخرى والذي يعمل كمحرض جمالي تتضافر فيه المفردة والبنية النصية محققاً المعادلة الشعرية الخاصة بها، فتضحي الصورة وكأنها نص شعري مستقل:
"إنني هوة سحيقة
يرمي الناس فيها الحجارة"
في ديوان آلاء حسانين، كل ما يمكن أن تضمه الدواوين الأولى للشعراء، من طزاجة وبكارة وروح ثورية وكشف للموهبة، إلا أنه يتميز بأنه تخلص من جلّ ما يعيب الدواوين الأولى أيضاً، بل يمكن القول إن الشاعرة في هذا الديوان استطاعت أن تقدم تجربة تبدو وكأنها مبنية على تجارب سابقة لها، رغم أننا بنظرة سريعة على تاريخ كتابة الديوان كما حددته الشاعرة (بين عامي 2014 ـ 2017 )، نكتشف أن عدداً من قصائده قد كتبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وهي سن مبكرة إذا نظرنا إلى المستوى المتميز للديوان.
استطاعت آلاء حسانين منذ ديوانها الأول أن تجد صوتها الخاص، ولغتها المميزة، وأن تخطو خطوة واسعة في مشروعها الشعري المبشر، أن تحفر مبكراً نبعها الشعري الذي لا يشبه أحداً، أن تصحب القارئ في رحلة شعرية خالصة من صفحة ديوانها الأول فلا يتركه إلا مع الصفحة الأخيرة.
آلاء حسانين صوت شعري حقيقي، يستحق المراهنة عليه، وعلينا أن نترقب دواوينها القادمة.
..................
*نشر في أخبار الأدب 

السبت، 17 مارس 2018

عن الشعر الكامن في "كنائس" أريج جمال

في الصفحة الأخيرة من ديوانه "طغيان سطوة الطوايا"، يشير الروائي والناقد إدوار الخراط إلى أن كل القصائد الواردة في الديوان هي مقطوعات من رواياته "رامة والتنين"، و"الزمن الآخر"، و"يقين العطش"، و"ترابها زعفران"، وأنه أضفى عليها إيقاعات جديدة ـ كانت كامنة في الأصل ـ كي تكتسب بذلك دلالات جديدة  كانت كامنة في الأصل أيضاً.

تذكرت هذا وأنا أتتبع مسارات الشعر المتسرب في نصوص المجموعة القصصية "كنائس لا تسقط في الحرب" للقاصة المصرية أريج جمال والصادرة أخيراً عن دار  "مصر العربية" بالقاهرة، والتي لا توجد في اللغة الشعرية فحسب، بل في ـ أحايين كثيرة ـ في رؤيتها للعالم، من خلال منظور شعري وليس سردياً فقط:

"سأخرج دفتر يومياتي

وأتلو كل شيء على سمع الله

كورد يعتقني من النار

وأقول لقد تغير كل شيء

كل شيء".

من الممكن أن نقرأ الفقرة السابقة باعتبارها مقطعاً من أحد نصوص المجموعة، لكنها تبدو لي أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر، بكل سماتها، بما للغتها من خروج على النمطية المعيارية، وبما لجملها من طاقة إيحائية عالية، بالإضافة إلى تحقيقها شرط بورخيس لصنعة الشعر وهو "العاطفة والمتعة"، فضلاً عن قدرتها على الإدهاش عبر صور شعرية خالصة. تقول أيضاً:

"حين يأتيني النوم

أفقد عقلي بسرعة

أسمع الخطوات البعيدة في الشوارع الجانبية

بلا مبرر واضح

الكلاب التي تنبح

وكأنها أصيبت بالفقد للتو".

يقول بورخيس في كتابه "صنعة الشعر" الذي ضمنه محاضرات ست حول هذا الفن: "إننا نعرف ما هو الشعر، نعرف ذلك جيداً إلى حد لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون عن تعريف مذاق القهوة، أو اللون الأحمر أو الأصفر أو معنى الغضب، أو حب بلادنا، هذه الأشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير إلا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها، وما حاجتنا إلى مزيد من الكلمات؟". ويبدو لي أن هذا القول ينطبق على المقطع السابق وعلى غيره من مقاطع في المجموعة القصصية نرى فيها الكثير من الشعر الكامن.

وربما تعي أريج هذا المعنى، وإن لم تصرّح به، لذا صدرت مجموعتها بمقطع آخر، ذا دلالة، سأتحدث عنها لاحقاً:

"كيس بلاستيكي على طريق سريع

وردي اللون، ينبض في الأعالي

مرة تلو مرة

فرجة على العالم، بلا ألم"

وفي ظني فإن أريج، في هذه المجموعة، وفي مجموعتها الأولى "مائدة واحدة للمحبة" أيضاً، تكسر الحاجز ما بين الشعر والقصة، ولا أعني هنا أنها تكتب "قصة شعرية" ـ إذا كان هذا المصطلح يروق للبعض ـ لكن أقصد أنها تقارب الشعر في كتابتها للقصة، وتقارب القصة بينما هي تكتب الشعر، دون تعمد، وهو ما يحتاج حساسية خاصة في التعاطي مع اللغة والصورة والسرد، إنها ببساطة تحطم الحائط الرابع لكل منهما، من الممكن أن نعتبر هذا سعياً لخلق فن جديد، أو مزيج من الفنين، لكن تفسيره الأقرب يحيلنا إلى رؤية ولغة أريج، المحملتين بالطاقة الشعرية، والتي ربما إن أعادت الالتفات إليهما لاكتشفت في كتابتها بعداً جديداً، لم تره أو تقدّره حق قدره من قبل.

من جهة أخرى، بدت لي المجموعة القصصية "كنائس لا تسقط في الحرب" أقرب لنص واحد طويل، أو عدة نصوص في حالة واحدة، ويمكن رد هذا إلى سببين أولهما أن النصوص جميعها مروية بضمير المتكلم لذات واحدة في أزمنة وأمكنة مختلفة غير مرتبة  لكنها تحمل نفس الهموم، ، وثانيهما وجود روابط بين أكثر من نص، بداية من الحديث عن "فرانكفورت" في نصوص مختلفة انطلاقاً من الإهداء، مروراً بفرجينيا وولف، وانتهاء بتكرار مصطلحات بعينها تمس الذات الراوية.

وفي ظني أن التصدير الذي وضعته الكاتبة للمجموعة، هو عتبة النصوص كلها، والذي تتحدث فيه عن "كيس بلاستيكي على طريق سريع"، يبدو جماداً لمن يراه من بعيد، "ينبض مرة تلو مرة"، إذن فهو كائن حي، "وردي اللون"، ربما ليعطي إيحاء بأنه مؤنث، "فرجة على العالم"، هو لا يتفاعل مع من حوله، بل يشاهد فقط ما يحدث وكأنه من عالم مواز ولا ينتمي إليهم، "بلا ألم"، ربما لأن هذا العالم يراه جماداً بلا مشاعر.

هذا "الكيس البلاستيكي"، الجماد، المتوحد على ذاته، الذي يتفرج على العالم كأنه من كون آخر، يشبه إلى حد كبير بطلة هذه القصص، التي لا نرى فيها حواراً إلا فيما ندر، بل مونولوج داخلي طويل يليق بهذا "الكيس" الواقف على طريق العالم السريع يشاهد ما يحدث في صمت دون أي رد فعل منه، بل إن أول جملة في القصص "تؤرجحنا العربة، تريد أن ترى من سيذهب في النوم"، فالإرادة هنا منسوبة للعربة، والمفعول به هي الأنا الساردة التي تستسلم لهذه الإرادة.

وهذا التماهي مع العالم والاستسلام لإرادته وقوته يحضر في أكثر من نص، مثل قولها: "الآن هو مجرد لا شيء، وأنا أيضاً، لا دليلاً واحداً على حضورنا، نحتاج إلى مركبة فضائية تتلصص على أوضاعنا من خارج الأرض كي نصدق أننا كنا هنا"، والتلصص هنا يبدو لي أن الأنا الساردة هي من تمارسه، سواء على ذاتها أو على عالمها، من مكمنها المعزول نسبياً، والذي لا يراه أحد أو قد يتعاملون معه باعتباره مجرد "كيس" على الطريق، تقول: "ترتدي ملابس عديدة كي يختفي جسدها الحقيقي، لن يروه لكنهم باستمرار سيظنون أنهم يفعلون"، هل يمكن هنا أن نقول إن ثمة مفارقة بين "الملابس العديدة"، و"الكيس البلاستيكي".

لهذا يغيب في هذه المجموعة الصوت، ويحضر "الطنين" و"الدبيب" اللذين تهرب منهما، وتحضر أكثر من لغة: "حضرت دروساً للغة الإنجليزية مع آخرين لا يتكلمون لغتها، تشعر أن لغتها ستتخلى عنها ذات يوم"، لذا لا نرى المحادثات إلا في الأحلام أو عبر الواقع الافتراضي (كانت تدير محادثات إنجليزية كاملة مع غرباء في المنامات)، وتقول أيضاً: "طلبت من الله حياة خافتة دون صوت".

واللغة إذا كانت تعبر عن التواصل، فإنها ليست كافية للحوار: "نحن جزر منعزلة، نملك أجهزة إرسال، لكننا لا نملك أي أجهزة استقبال"، ورغم أنها ترى اللغة كافية للاستئناس "لا أحد يعرف لغتك في الكون، لا أحد يؤنس وحدتك"، إلا أن الطلاقة في الحوارات نراها بلغة أخرى في نصي فرانكفورت.

ولهذا فلا حوارات حقيقية في هذا النص إلا في العالم الافتراضي أو الأفلام أو الأحلام أو عوالم الكتابة، التي تستبدلها بواقعها التي تنأى عنه.

وعالم الأحلام يحضر بقوة في جل نصوص المجموعة ليكمل الحكايات الناقصة، "في المنام أسمعنا نحدد موعداً للقاء"، وليحاول الإجابة على الأسئلة المطروحة، وليعيد بناء العالم على طريقتها، ولهذا ترى المنامات بالتوازي: "تكون في أكثر من منام في اللحظة الواحدة، كل منام مستطيل، ويجاور مستطيلاً آخر تعيش هناك أكثر من الحياة"، ويغدو كأنه عالم متكامل "في المنام رأت كل الصداقات التي كونتها"، بل إنها تستقوي به على وحوش الواقع وما يمكن أن يفعلوه بها: "لاتخافي، ما أنت إلا حلم، لا أحد يستطيع أن يحذف الأحلام من الوجود"، ومع ذلك لا تبدو الأحلام والمنامات حلاً كافياً، تقول: "أحاول لمس يديه، فلا أصل إليهما وأنظر في عينيه فلا أرى أي شيء"، وعندما حاولت أن تنقذ فرجينيا، لم تستطع أن تفيق لتفعل ذلك لأنها علقت في الحلم، وكأنها هنا تكشف عن وعيها بأن الحلم سيظل عالماً موازياً غير حقيقي، لكنه لا يصلح الأشياء المعطوبة

في عالم الأفلام، كما في قصة fin  تشاهد اسمها بين أسماء عناوين الفيلم، ويكون كل همها أن ينتهي الفيلم "نهاية بديعة"، وفي العالم الافتراضي تتحدث مع "الدائرة" التي تكمل الفراغات في قصة حب غير مكتملة. أقوى هذه العوالم وأهمها للذات الساردة هو عالم الكتابة، لأنه يقع بين الحياة والهاوية، ولهذا تحضر فرجينيا وولف في النصوص، ولا يبدو الأمر لي مجرد تماهٍ مع شخصيتها، أو استحضار لطريقة كتابتها أو أفكارها وسردها الباطني، بل يبدو أقرب إلى سؤال حول علاقة الكتابة بالموت الذي تنهي به السطر الأخير من هذه المجموعة.

"الكتابة" في قصص أريج خلق، لهذا فالأنا الساردة تحمل بها: "بطني تكورت وأشعر أن نصاَ كبيراً يكتبني، وأقرر أن أسمي نصي الخاص فرجينيا"، والكتابة قوة وحياة "لأننا حين نكتب لا نعود هشين أبداً، نصنع أيامنا من الفقرات، المدينة التي نعيش فيها من شكل الحروف، السماء التي نخشع أسفلها من الوقع السمعي للكلمات"، ولهذا تغدو الكتابة عالماً مستقلاً يكمل ما لا يحدث في العالم الحقيقي "كنت داخل النص أحادثك"، وتصبح أيضاً مهرباً من قسوة الواقع "بدأت أكتب نصاً جديداً، كنت أختبئ فيه داخلي"، الكتابة هي رد الفعل الإيجابي ـ ربما الوحيد ـ في هذه المجموعة لأنها تشعر فيه بكينونتها، تقول في قصة باب من أحب في يوم الأحد: "ينبغي أن أهدأ لأني الآن أكتب، وهذا دليل قاطع على وجودي"، لهذا تسعى أن تصير "راهبة للكتابة".

في حوار قديم مع أريج جمال قالت: "أطيرُ مع الكتابة بجناح واحد، فينبت جناح آخر من مكان لا أعرفه، وأنجو"، والنجاة التي تتحدث عنها هنا تعيدنا إلى فرجينيا التي لم تستطع أن تنجو رغم الكتابة، لذا تقول الذات الساردة إنها لا تفهم أبداً "لماذا تأتي الهاوية قبل أن تأتي الكتابة". وهذا السؤال يمكن اعتباره إجابة على سؤال: "لماذا فرجينيا؟"، ولماذا هذا الحضور الطاغي لها في هذه المجموعة، هل كان تقاطعاً معها كما في رواية وفيلم "الساعات"، الإجابة في ظني: لأن فرجينيا طرحت بانتحارها إجابة "مقلقة" على سؤال الكتابة والهاوية، وتعتبر الساردة ذاتها ابنة لفرجينيا "الكاتبة"، لكن ليس بالضرورة أن تحصل على نفس إجابتها، رغم أنها تسلك نفس طريقها في الأسئلة؛ أيهما: الكتابة أم الهاوية؟

ومن الجدير بالإشارة هنا، أن العائلة تغيب في هذه المجموعة القصصية، فنحن أمام ذات منغلقة على نفسها ـ ما عدا في نصي فرانكفورت بما لذلك من دلالاته ـ إلا صورة سوداوية في قصة "صورة جديدة"، وظلال للأب في بعض النصوص، لكنها في نص "موت فرجينيا" تقول: "لم أكن يوماً ابنة لأحد، كنت ابنة نفسي، وابنة فرجينيا"، وهو ما يجعلنا نتساءل أيضاً، هل كانت في النص تتحاور مع ذاتها (ابنة نفسي) أم فرجينيا؟.

يبقى سؤال أخير في هذه المجموعة حول اسمها "كنائس لا تسقط في الحرب"، وهو المقتبس يتصرف من أحد نصوص المجموعة، فالكنائس هنا تشير إلى المجتمع الغربي ـ بحسب النص ـ الذي وجدت فيه ذاتها وحريتها وصوتها رغم جهلها لغته، لكن الحرب التي نراها في جل نصوص المجموعة لم تكن حرباً تقليدية، بل كانت مع المجتمع والهوية والعالم وخيباته، بل مع الذات أولاً.

 
 
 

الثلاثاء، 13 مارس 2018

"يوم آخر من النعيم" لـ عبير عبد العزيز.. طريق النص الثالث


كان خوان ميرو ـ أحد أشهر فناني المدرسة التجريدية ـ يقول: "أنا لا أميز أبداً بين الرسم و الشعر، أحياناً أوضح لوحاتي بعبارات شعرية وأحياناً العكس"، وهذه الرؤية لوحدة الفنون وتراسلها تبدو هي الطابع الأغلب لنتاج الشاعرة المصرية عبير عبد العزيز.
في ديوانها الأخير "يوم آخر من النعيم"، تقدم عبير نصوصاً رفقة أعمال أبرز نحاتي السلك في العالم، تتقاطع مع النصوص حيناً، وتكملها حيناً آخر سعياً لتشكيل بصري للنص، غير أن هذا ليس جديداً عليها، فقد قدمت ديوانها الأول "مشنقة في فيلم كارتون" مع صور من فيلم أنيميشن حائز على الأوسكار، وقدمت ثاني دواوينها "عندما قابلت حجازي" مع لوحات للفنان الكبير الراحل أحمد حجازي، وقدمت ثالث دواوينها "بيننا سمكة" مع رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني، وفي كل هذا كانت عبير تقدم الشعر مقترناً بفن آخر يتبادلان الإفادة من إمكانييات كل منهما، سعياً لتمازجهما.
وامتدت هذه الرؤية للشعر في أنشطتها الشعرية الجميلة الأخرى، سواء كانت خاصة بها مثل تقديم الشعر على أقمشة الخيامية مع لوحات حجازي، أو الأنشطة الأخرى التي تلفت بها نظر المجتمع للشعر، بطرق شديدة الجدة والبساطة والعمق في آن، سواء ذلك الذي قدمته في مشروعها "ذات للشعر"، عبر تقديم الشعر مع العرائس المتحركة أو الموسيقى أو حتى إعادة ترتيبه لتقديم نصوص مختلفة تماماً، أو تلك الأفكار المهمة التي قدمتها في مشروعي "استاند شعر" و"ادعم شعر"، في محاولة للوصول بالشعر أبعد من قارئه التقليدي. فلم تكتف بالذهاب بالشعر إلى المدارس، وإلقاء القصائد بل قدمته للطلاب، ولغيرهم في صورة مبهجة، مرة في صورة كروت بوستال، ومرة بأن قرنته مع الأبراج، ومرة في أفلام أنيميشن،  ومرة في بوسترات الأوريجامي وغيرها من الأفكار المدهشة.
إن اللافت في كل ما سبق هو رؤية عبير عبد العزيز للشعر، وهو ما تطلق عليه "الفن الثالث" في مقدمتها لديوانها الأخير حيث تقول "عندما أكتب القصيدة أجدها تستدعي فنوناً متوازية معها لتخلق نصاَ آخر غير المكتوب"، هذه الرؤية التي ترى فيها النص حراً بدون قيود، يمكنه أن يتضافر مع أي فن آخر:
القصائد الحقيقية
بلا ترباس أو قفل او مفتاح
هي فقط
بوابات ونوافذ
متاهات، رحلات لا حصر لها
وفي هذا النص لا ترى عبير الشعر في الحروف المتراصة فوق الورقة فقط، بل في كل شيء، ومن هنا تربطه بالفنون الأخرى، وهذه الرؤية لشعرية العالم ولجماليته، وهو ما يعتبره الفنان والكاتب السوري الراحل "محاولة لخلق جمال جديد يضاف إلى جمال الطبيعة المركّب".
وهذه الرؤية الجمالية للشعر تنتقل بين دواوين عبير عبد العزيز وصولاً إلى ديوانها الأخير، لكن اللافت حقاً في هذا الديوان، هو التطور الشعري لغة وبنياناً وتصوراً، فلم تنشغل عبير بتقديم مشروع موازٍ للقصائد ـ أقصد أعمال السلك ـ عن العناية ببنية القصائد، والتي وإن جاءت مكملة لمشروعها السابق، إلا أنها مختلفة ومتطورة في بنيتها ورؤيتها للعالم.
في هذا الديوان نحن أمام نصوص قصيرة بدون عنوان، تبدو منفصلة متصلة، متقاطعة في أحيان أخرى، متضافرة مع الأعمال الفنية المختارة، لتجد أنك أحياناً تجد أن أحد الأعمال يبدو عنواناً لقصيدة، وفي أحيان أخرى، تضيف إعادة تشكيله في الصفحة، وزاوية تصويره قراءة أخرى للقصيدة، كما في نص "هل يعرف أحدكم الغزالة".
تحضر الغزلان والسناجب والقطط والأشجار والحيوانات والألعاب بكثرة، كأننا نرى العالم من عيني طفل، وعبير عبد العزيز التي بدأت مشوارها مع النشر بكتاب للأطفال، وفي دواوينها الأربعة نجد كتابين للفتيان، تحافظ في هذا الديوان الذي تقدمه للكبار على "عين الطفل" ودهشته أمام العالم.
هناك أطفال
ينفخون البالونات عن آخرها
ثم بدبوس مدبب ينثرون هواءها
ولا يقابل هذا الاهتمام برؤية الطفل، سوى اهتمام مقابل بالحرب، التي تتناثر بنادقها ودباباتها ورصاصاتها على مدار القصائد، بل في واحدة من أجمل نصوص الديوان:
الأمهات وحدهن من تكورت بطونهن
لتحمل الصغار
..
من تكورت دموعهن
على الراحلين بعد المعارك
الأمهات من أرض الوطن
أو من أرض العدو
غير أن الصراع بين هذين العالمين: عالم الأطفال، وعالم الحرب، ينتهي بانتصار الطفولة التي تقتلها الدبابات، ومع ذلك فهم يتعاملون معها بكل عفوية:
ضع الأطفال في معركة
سوف يعتلون فوهات المدافع كأحصنة
يلوحون بأيديهم في الهواء
يجمعون طلقات الرصاص الفارغة
لمعانها يذكرهم
بقطع النقود المعدنية في حصالاتهم.
وتضع عبير عبد العزيز هذين العالمين وجهاً لوجه، عندما  تستحضر أغنية للأطفال من التراث الشعبي، وتعيد تشكيلها بظلال من عالمي الأطفال والجنود:
فكرت أن أرسل ملايين الدببة
للعساكر وهم على أهبة الاستعداد للقتل
لعل الدببة توقعهم في البئر
وحين يدخل الأطفال عالم الحرب، يغدو العالم بلا مستحيلات، لأنها تقدمه برؤية وعين الأطفال الذين "يوقظون الموتى بهزهم هزات قوية، أو جذب أيديهم لأعلى، أو بمحاولة إضحاكهم عن طريق دغدغة بطونهم".
عبير لا تحدد مكاناً ولا زماناً للحرب، لكنها ضد الحرب على إطلاقها، لا تقف في صف ضد آخر، ولهذا فهي في قصيدة "الأمهات" تساوي بين الأمهات من أرض الوطن أو من أرض العدو، ولا تترك للقارئ فرصة لينحاز ضد أحد الفريقين، بل يتعاطف معهن وهن "يحلفن ببطونهن، بدموعهن، بالملابس المتكورة على الأخذ بالثأر"، ثم تتركه في النهاية ليأسى على الأمهات في أرض الوطن والعدو، بعد أن انكمشت قلوبهن بفعل إقامة المعاهدات ونسيان الثأر.
بل إن الجنود  أنفسهم مظلومون، لأنهم يساقون إلى الحرب، ويتحولون من مدنيين إلى مقاتلين مغلوبين على أمرهم، بل إن معظم القصائد رثاء لهؤلاء الجنود ذوي الأحلام الميتة، الذين سيقوا إلى ميادين القتال:
لماذا لا تتركوني أحلم
فالحلم يُبعدني مسافات كبيرة عن مواقع المعارك
التي تعلو فيها  نبرات صوت المقهورين
لا تلقي الشاعرة هنا باللوم بعيداً عن أولئك الموجودين في ساحة الحرب، مهما فعلوا، سواء الممرضات في مستشفى العدو اللائي لا يعرفن  كيف ذهبن إلى ساحة القتال، أو الجنود، الذين يتناقلون الأسرار لأنها ستموت معهم في النهاية:
"ربما الأسرار تتكاتف ذات يوم
لتجبر الجنود  على العودة إلأى بيوتهم
لتجذب الجنود بعيداً عن الساحات
ربما تخفي أقدامهم
فييأس الساسة والقادة
من حلم السيادة والجيش الذي لا يقهر"
في هذا الديوان عجائز ومقعدون وعائدون من الحرب، لا يملكون سوى ذكرياتهم، ليس مهماً في أي جبهة كانوا، فالحرب انتهت وخلفت هموماً ثقيلة، وهذه الصورة التي تتنقل من قصيدة إلى أخرى، تجعلنا أمام  سيناريو لحكاية طويلة، تتوالى صورها في الديوان، لتكمل صورة لعمل فني،لتتواشج الصورة والحكاية مع الأعمال الفنية، ليس فقط لأن "الحواديت سلاحنا الوحيد"، كما تقول الشاعرة، ضد الحرب وتعنت الحياة، بل لأنهما من الفنون الأقرب للوحات المختارة.
وفي هذا العالم القاتم، الذي مات فيه الجنود في الحرب، تحضر "الصديقة" ، التي تخاطبها الشاعرة على مدار الديوان، كأنها ملجأ للروح في عالم مشوه. كعلاقة إنسانية بسيطة، تستحضر رؤية الطفل للأشياء، فترى السوبر ماركت سيدة ضخمة تراقب عن كثب، وتتعامل مع رفوفه المتراصة كممرات ودهاليز "لعبة المتاهة"، وتنظر في المرآة "إلى ذات الرداء الأحمر"، وإلى "سندريلا".
صديقتي، كان السوبر ماركت
في التاسعة صباحاً
سرنا الصغير الذي لم يعلمه أحد
ونحن نكمل اليوم بأعمالنا المعتادة المملة  
ورغم ذلك تبدو الصديقة، التي كانت تجعل ابتسامتها غزالا صغيراً،  جزءاً من الماضي، مثل أولئك "الذين يتحولون إلى أشباح على الطريق عندما تمر العربات بجانبهم أو أمامهم"، لكنها تحضر في الديوان مثل طيف يرف بين قصائد الحرب ليخفف وطأتها بالصداقة التي تصفها بأنه "ذللك الشعور الذي يفصل بين حملي أحلامي، في طريق طويل، ولحظة تضغط علي بشدة، لأقفز من بناية قديمة"، فتبدو كأنها ممر بين الحياة والموت، تمنحه الصديقة للشاعرة لتقف فيه.
من الممكن أن يتسع معنى الحرب في هذا الديوان، لا سيما إذا كان الشعراء هم الجنود، ففي نص أخير نجد الأسلاك الشائكة وهي تحيط بالقصيدة، بكلمات النص البسيطة الواضحة كأنها بيان لرؤيتها الشعرية:
"كم من شعر وشعراء يقيمون الحواجز
يبنون الأعشاش والقصائد
لظلال قصائد خاوية
لكن القصيدة القصيدة
تظل في الخارج".
في ظني فإن هذا ما تريد عبير عبد العزيز قوله في هذا الديوان، بل وفي كل مشروعها الشعري والإنساني، حيث القصيدة تقفز فوق وخارج الأسوار الشائكة، سواء تلك التي تصنعها الحروب أو الحكومات، أو ذواتنا، أو حتى طريقة فهمنا للشعر وللطاقة الكامنة داخله.

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...