الثلاثاء، 26 مارس 2019

"مزاج حر".. تجوال في خيال محمد الفخراني


تبدأ رواية "مزاج حر" للروائي المصري محمد الفخراني، والصادرة أخيراً عن "الدار المصرية اللبنانية" بالقاهرة، بكاتب في بداية الأربعين ـ نكتشف فيما بعد أنه هو المؤلف ذاته ـ يتحدث عن حلمه بالتجوال في العالم، كمتشرد متجوّل، بدون هاتف أو كاميرا أو طعام أو أدوية، فقط أوراق وأقلام وملابس خفيفة في حقيبة قماشية على ظهره، وهكذا تبدأ رحلته السياحية حول العالم.
هذه إذن رواية عن محمد الفخراني، وعن جولته فيما أحب ويحب، جولة ـ لو شئنا الدقة ـ فيما أثار دهشته واستغرابه وشغفه، جولة في خياله، لأنه في رحلته التي بدأت بقطار انطلق إلى العاصمة، لكنه بدأ يتوقف في مدن لم يكن لنا أن نتخيلها، تنقل فيها عبر الزمان والمكان، حيث تلتقى السماء بالأرض عند نقاط محددة كما كنا نتخيل في طفولتنا، تحدث جميع اللغات وقابل أشهر العشاق، لم يذهب إلى المدن التي تخوض حروباً ضروساً ـ ما قد يغري بعض الكتاب بدراميتهاـ لكنه ذهب إلى عصور النهضة، قابل عشاقاً وفنانين وشخصيات خيالية لم تغير شيئاً في العالم سوى أنها تركت ما يثير الدهشة والخيال.
يمكن تقسيم ما قابله الراوي في رحلته إلى خمسة أقسام: القسم الأول:  شخصيات حقيقية في لحظات فارقة من حياتها مثل عباس بن فرناس أثناء محاولته تحقيق حلم الطيران، وليوناردو دافنشي لحظة رسمه لوحته الشهيرة الموناليزا، وأرشميدس لحظة اكتشافه قانون الطفو، والملاحظ هنا أن الراوي لا يكتفي بالفرجة على التاريخ بل يدخل ليغيّره، فهو لا يترك ابن فرناس يسقط كما روت حوادث التاريخ، بل نراه يطير، بل ويتبعه في كل تجواله حول العالم، كأن استمرار الطيران جزء من تحقق شرط التجوال وهو استمرار الدهشة.
القسم الثاني: شخصيات من خيال مؤلفين آخرين، مثل دون كيخوته، وعبد ربه التائه، وشهرزاد، وأحدب نوتردام، وفيها يحاول تغيير مسارها لإنقاذ حيواتها من مصائرها المأساوية التي وُضعت لها، كأنه يحاول منحها حياة مستقلة عن الحياة التي منحها لها مؤلفوها، وهو ما يمكن أن نلاحظه بشكل أوضح أثناء لقائه روميو وجولييت، فنحن نقابل ـ معه ـ نسختين، النسخة الأولى ممثلين يؤدون دوراً في المسرحية الشكسبيرية، والنسخة الثانية تبدو حقيقية يتحادث معها ويحاول أن ينقذها من موتها الذي قدّره الكاتب لها، ولعل هذا يحيلنا إلى حوار مهم يورده الراوي مع البنت السمكة عن المبدع وإذا كان سيدمر شيئاً جميلاً قد صنعه، تقول: "أثق أن المبدع الذي أبدع كل هذا الجمال لن يتخلّى عن إبداعه، لا أتحدث عن فكرة دينية، أو منطق، أو كلام عقلاني، لكن عن الجمال". وهذه الفكرة تلح على الراوي في أكثر من موضع في الراوي لذا يحاول تغيير ما اتُّفق عليه تاريخياً وعقائدياً وعقلياً، في انحيازه للجمال والحب.
ولعل هذا يحيلنا إلى القسم الثالث من الشخصيات التي قابلها الراوي، وهي شخصيات خلقها من قبل في روايته الجميلة "ألف جناح للعالم"، يقول الفخراني في روايته "أجمل أمنياتي أن أرى من أبدعني"، لذا يقرر أن يحقق هذه الأمنيات لشخصيات روايته السابقة، لكن الشخصيات لا تعرفه، وإن كانت إحداها تحس به، بما لذلك من دلالات صوفية، وهو ما دفعني لإيراد مصطلح "الخلق" هنا عندما أتحدث عن علاقته بشخصياته، إذ يبدو كأنه يطرح فكرة التخيير والتسيير، ويتحدث عن مواقف لم يكتبها في الراوية، كأنه يترك لها حرية اختيار حياتها، كأن حياتها اتخذت مساراً بعيداً عنه، بل يكتشف بعد حوار معها أنها تعرف عنه أكثر مما يعرف عنها.
القسم الرابع: هي شخصيات من الميثولوجيا الدينية، وهي شخصيات مؤثرة بشدة في الديانات السماوية الثلاث، السيدة مريم العذراء، والنبي موسى، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ  وقابيل وهابيل ثم ينتقل إلى الجنة، التي يغادرها في نهاية الرواية إلى الأرض، بما لذلك من دلالات دينية واضحة، حيث الخيال هو الجنة،  والتي غادرها في النهاية ليستقر في الأرض بواقعيتها وبؤسها، في محاكاة لقصة النبي آدم عليه السلام، وخروجه من الجنة، لكن الفارق أن الراوي اصطحب جزءاً من خياله معه كرصيد إضافي للحياة، عندما يمر عباس بن فرناس يطير، فيرد على ما يعتقد أنه ابتسامة الله، إنه الإيمان بدور الخيال والحكي والدهشة والحب في استمرارية الحياة.
القسم الخامس: هو شخصيات من ابتكار المؤلف  أو جمادات: مثل القصة والرواية والشعر والموسيقا مثل الفتاة السمكة، والمهرج، والفتاة الكمان، والبائع المتجول، وملاك المشي وشيطان العرقلة، وهي شخصيات تشبه إلى حد كبير شخصيات المؤلف الأثيرة في مجموعاته القصصية، وروايته السابقة، وإن كان هذا يحيلني إلى إشارة مهمة حول ترابط عالم محمد الفخراني السردي، فإذا كانت هذه الشخصيات تربط الروية السابقة بهذه، فإن هذه الرواية تنتهي بذكر الجنة، والتي تبدو جزءاً من تكوين روايته القادمة، التي أسعدني الحظ وقرأت مقاطع منشورة من مخطوطها.
لا يمر تجوال الفخراني في العالم هباء، ففي كل لقاء له مع إحدى الشخصيات نجد سؤالاً مدهشاً، تتساءل شهر زاد على سبيل المثال: "هل أنا من حكيت الحكايات أم هي من حكت عني؟"، ويبدو لي أن محمد الفخراني هو من يطرح هذا السؤال، بولوجه إلى دم الحكايات، حكاياته وحكايات غيره، وهذا السؤال الدائري يشبه اللعبة، وهو يتكرر بصيغات فلسفية مختلفة على مدار الرواية، لكن الكاتب يحب هذه اللعبة، بل يرى أن الكتابة في حد ذاتها لعبة، لدرجة أنه يسمي إحدى مجموعاته القصصية الجميلة "قصص تلعب مع العالم"، ويرد على لسانه في هذه الرواية كثيراً قوله "أحب هذه اللعبة". لكن الحكي في هذه الرواية يتجاوز كونه لعبة مسلية إلى كونه حياة، فالحكايات أنقذت روح شهرذاد، وشفت شهريار، وحوّلت مسرور من سيّاف قاتل إلى عازف موسيقي.
وحين يقابل الشيخ عبد ربه التائه، الذي يصف ملامحه بأنها قادمة من تلك المسافة بين السؤال والإجابة، ويمنحه فرصة سؤال واحد، يسأل عن مفتاح أسرار الوجود، وتكون الإجابة هي "الحب"، والحب ـ مثله مثل الشغف ـ من مفاتيح هذه الرواية، ويكاد يكون الشيء الوحيد المكرر بصيغ متكررة في هذه الرواية هو ما يقرأه الراوي على جدران كل البلدان التي زارها "فلان يحب فلانة"، بلغات مختلفة، يوردها الفخراني بالعربية وبلغاتها الأصلية سواء كانت الإسبانية أو الهندية أو الإيطالية أو الصينية أو الإنجليزية، وغيرها، كأنه يريد أن يقول إن الحب هو اللغة الوحيدة المشتركة، التي تجمع كل هذه الأجناس والأعراق والبلاد وأن القلب هو الذاكرة الحقيقية لنا، ولهذا أيضاً يحاول أن يتدخل لإنقاذ قصص حب روميو وجولييت من الفشل، وأحدب نوتردام، كأن مهتمه هي البحث عن الحب في العالم وإنقاذه، بل إن يفاجأ أن شخصية روايته السابقة "القبطان"، كان يحب سيمويا، دون أن ينتبه هو كمؤلفٍ إلى ذلك، وكأن الحب يتجاوز القدر، أو حتى ما يصل إليه خيال المؤلف، ويصنع قدره وتاريخه بنفسه.
نحن إذن أمام عالم محمد الفخراني، وعندما أقول إن الرواية تجوال في خياله فأنا أقصد ذلك، لأنه يأخذنا من أيدينا ويسحبنا في رحلة غرائبية مثيرة مدهشة، نراه يأخذ قطعة صغيرة من السحاب يغمسها في النهر ويشرب، أو يقابل بيتاً على شكل قطة، نرى عالمه الأثير، سواء الذي قرأه أو رآه أو شاهده أو تعمله أو أحبه، عالمه الذي كلمات سره هي "الدهشة والحب والشغف والجمال"، فالحب ـ كما يقول ـ  "ليس إلا لحظة استثنائية من الدهشة"، والدهشة سبب للحياة أو كما يقول "اندهش تحيا"، والشغف كان مدخل روايته السابقة "ألف جناح للعالم"، حيث صدّرها بقوله "لا تفقد شغفك"، كأنه يريد أن يقول لا تفقد حياتك. والجمال هو الطبيعة في بدايتها، قبل أن تدخل فيها يد الإنسان بالتغيير والتبديل والإضافات. طبيعة على سجيتها، كما خلقها الله، وكما يتخيلها ويراها، لأن سحرية الأشياء في عاديتها كما أشار في أكثر من موضع في الرواية.
يقول الكاتب في روايته إن "عقل الإنسان هو أكثر مكان يتسع للمشي، فلا نهاية له"، وهذه الرواية المدهشة التي اكتشفنا عالمنا مرة أخرى فيها، وأعادت تشكيله، تجوال مذهل في عقل وخيال محمد الفخراني، فيا لها من دهشة.

الأحد، 24 مارس 2019

"محاولة الإيقاع بشبح".. النجاة عبر الحكاية


يقدم الروائي المصري هاني عبد المريد في روايته الجديدة "محاولة الإيقاع بشبح" الصادرة أخيراً عن الدار المصرية اللبنانية، حلولاً لكل مشاكل العالم عبر الحكاية، فالحكاية وحدها قادرة على محاربة العمى واستعادة الأرواح الضائعة وتحويل الدمى إلى  كيانات بشرية من لحم ودم والانتصار على الواقع وهزيمة الأسطورة، لكن بشرط أن تختار الحكاية المناسبة، المهم أن تحكي "حتى لو قصصت كل حكاياتك واحدة تلو الأخرى، حتى تأتي الحكاية التي ينتظرها الجميع بكل شغف"، كما قال على لسان إحدى بطللات روايته.
ولهذا يقدم هاني عبد المريد تنويعاً جديداً على سرد "ألف ليلة وليلة"، عبر خطين درامين متوازيين، أحدهما فانتازي (حكاية هانم وزوجها والعجوز)، والتي تروي فيه حكايات غرائبية لتستعيد عائلتها، فضلاً عن اللغة الموحية وأسطرة الشخصيات (العجوز على وجه التحديد)،  بل إن هانم نفسها تستعين بكتاب "ألف ليلة وليلة" لتقص منه الحكايات على زوجها.
الخط الآخر واقعي، لكنه يبدو فانتازياً من فرط غرابته، ويتبادل فيه الخال يونس والفتى يامن الحكايات للانتصار على الحياة وواقعهما المأزوم، عبر لعبة الكلمات التي تفضي بدورها إلى حكايات أخرى. يقول يامن: "جاءني خاطر أن الخال ستنتهي حياته يوم تفقد حكاياتي بريقها بالنسبة له"، ولهذا السبب يلجأ إلى مزج الخيال بالواقع (أليس هكذا تصنع الحكايات)، بل يتحول إلى "قناص يحاول طوال الوقت الإيقاع بما يرضيه من حكايات" كما يصف نفسه.
كل من في الرواية يقدم حكايته الخاصة لتجاوز أزمته، بل إن الرواية نفسها حكاية داخل حكاية، وتنتهي ونحن لا نعرف ما هي الحكاية المناسبة التي تحتاجها "هانم" لكي تعيد الحياة إلى أجساد زوجها وولديها، وهكذا يترك هاني عبد المريد الباب مفتوحاً لمحيط لا نهائي من الحكايات الأخرى التي يجب أن تروى، وهكذا يظل الأمل دائماً معلقاً بالحكاية طريقاً للحياة وللخلاص وللنجاة.
في الرواية، تنقل هانم الحكايات من العجوز إلى زوجها وولديها، دون أن تعيها أو حتى تحفظها "لم أشعر أنني أحمل حكاية، لم أشعر بأن لدي ما سأقصه عليهم في البيت حين أعود"، وكأن الغرض من الأمر كله هو الحكي، هو تلك الكلمات السحرية التي تملك طاقة الشفاء، مثل قراءة كلمات مقدسة غير مفهومة على مريض ليُشفى، أو أمام باب ليُفتح، كأنها "افتح يا سمسم"، أو "هابرا كادابرا"، أو غيرها من الكلمات السحرية التي تحمل طاقة الخلق والتغيير.
غرام هاني بـ "الحكاية" ورؤيته لها علاجاً موجود في معظم أعماله، فجميع عناوين قصص مجموعته البديعة "أساطير الأولين"، تبدأ بكلمة "حكاية"، كتأكيد على غرامه بفكرة الحكي المجردة من أي شيء آخر، وهو ما نجده بشكل آخر في جميع رواياته، فراوي روايته الأولى "عمود رخامي في منتصف الحلبة" يحكي كي يتذكر، كأن الذكرى التي تمنحها الحكاية تأكيد على حياته، وبطل روايته الثانية "كيرياليسون" يكتب مذكراته أو ينقشها على حائط سجنه التخيلي للانتصار على هزيمته، وبطل روايته الثالثة "أنا العالم"، ينصحه الطبيب بأن يكتب مذكراته كطريق للعلاج ولمقاومة وحدته وحتى لا ينتهي العالم، وفي روايته الأخيرة ـ والتي تبدو كدرة التاج في هذا التسلسل ـ  تأتي الحكاية كبعث للموتى، فتلجأ هانم للحكي كي تحول زوجها وولديها من دمى إلى كائنات حية، وهو نفس الفعل الذي يقوم به يامن في المقابل، فحكاياته تمنح الخال يونس الكفيف عينين، وتجعله يرى عبرها، بل يمكن اعتبار "الخال" دمية أخرى تحييها كلمات يامن.
في الروايات الأربع، نحن أمام حبيبة غائبة، غير ملموسة لنا، لا يمكن استحضارها حقيقة إلا من خلال الحكي (سواء كانت ريم "اسم الحبيبة في روايتين" أو محبوبة محب أو حتى فوفا التي نعرفها في معظم صفحات هذه الرواية من خلال حكيه عنها واستراقه النظر إليها من وراء الشيش)، وهو الفعل ذاته الذي تمارسه هانم تجاه زوجها الذي تفتقد وجوده الحسي، ولعل هذا يبرر لجوء هاني في جميع رواياته إلى صيغة الرواي المتكلم، بما تمنحه هذه التقنية الفنية للقارئ من قرب من الكاتب، كأنه يجلس بجواره ويسمع حكاياته.
ومن الملاحظ أن العائلة أن تحضر كمكون رئيسي في جميع أعمال هاني عبد المريد، ففي "عمود رخامي في منتصف الحلبة" نرى أسرة الراوي المشتتة، وفي كيرياليسون يستعيد الراوي "ناجح" نتفات من ذكرياته تكشف تفتت ذوات الجميع (الأب الشيخ تيسير والأم الخاضعة والخال القانع بقدره)، والأمر ذاته في "أنا العالم"، و"محاولة الإيقاع بشبح، حيث العائلة التي تفتتها الظروف، وهو ما يجعلنا إزاء أبطال مأزومين طوال الوقت، يواجهون أزماتهم بالكتابة (جميعهم يكتب مذكراته بطريقة أو بأخرى)، كأن غياب دفء العائلة يستعيض عنه الراوي بدفء الحكاية سواء كان ذلك عبر المونولوج الداخلي أو الديالوج.
يشير هذا أيضاً إلى وحدة العالم لدى هاني عبد المريد في أعماله، وتطورها أيضاً، وقد أشرنا سابقاً إلى تطور طريقة استخدامه لمفهوم الحكاية وقدرتها، لكن تشابك العالم الروائي لدى الكاتب  يتجاوز هذا لتنويعات أخرى، بداية من  شخصية "الخال" ذات الحضور الكبير في أكثر من عمل، إلى الغرام بتكوين عالم أسطوري، يمكن تلمسه أكثر إذا تتبعنا مجموعاته القصصية على حدة، إلى إشارات أخرى تربط هذه الرواية التي بين أيدينا بروايته السابقة "أنا العالم"، التي نرى فيها تحول شخصية كامل القط، وباقي إخوته إلى كرات من اللحم، وهو ما نجده بطريقة أخرى في هذه الرواية التي تبدأ بثلاثة من أبطالها قد تحولوا إلى دمى مطاطية، أيضاً لدينا في الرواية السابقة نبتتات النعناع في صدر الحبيبة، وفي الرواية الجديدة نجد السيدة التي نبت الريش على جسدها.
يواصل هاني عبد المريد في هذه الرواية ما بدأه في روايتيه السابقتين "أنا العالم"، و"كيرياليسون"، بل وفي قصصه القصيرة أيضاً، من خلق عالم خاص به، يتأرجح بين الحقيقة والأسطورة، الأسطورة التي تقع بدورها بين العبثية والفانتازيا، وربما لترابط هذا العالم ـ عالم الكاتب ـ بحكاياته وخصوصيته، يشير هاني إلى إحدى قصص مجموعته الأخيرة "تدريجياً وببطء" على لسان "هانم" بطلة روايته الجديدة، دون أن يوضح طبعاً أنها له، لكنها إشارة كافية لربط عالمه ببعضه البعض.
في هذه الرواية يرى الخال يونس عبر الحكاية وحدها، ويستعيد الأب مرزوق وولديه حواسهم كلها عبرها أيضاً. كأن هاني يريد أن يقول لنا إن الحكاية هي عصا الإله السحرية التي تمنح الحياة، كأنها النبي عيسى الذي يحيي الموتى، كأنها الروح التي تهب كل جماد نعمة الحياة، كأنه يريد أن يقول إن الحكي يكفي لمواجهة العالم، ويمكنه أن يكون حائطاً يتكئ عليه الجميع لهزيمة مخاوفهم وموتهم الافتراضي والحقيقي.
هذه الرواية الجميلة على الرغم من بساطتها، شديدة التعقيد، ليس فقط لأن الروائي استطاع الحفاظ على تماسكها وشد خيطي طرفيها بينما يتبادل رواية حكايتين مختلفتين دون أن يسقط الإيقاع من إحداهما، وليس فقط لأنها تعتمد على تكنيك الحكاية داخل الحكاية، لكن لأننا حتى نهايتها، وبينما نحن منغمسون في لعبة الكلمات والحكايات التي يمارسها الخال مع "يامن"، لا نعرف إذا كان قد حكى لنا حكاية الشبح أم لا، و لم نعرف ما هو الشبح الذي يريد هاني عبد المريد الإيقاع به: هل هو الحكاية، أم الخيال، أم القارئ.

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...