الاثنين، 19 أغسطس 2019

"المقاعد الخلفية".. شخصيات مضطربة في مجتمع متداعٍ


محمد أبو زيد
يحيل مصطلح "المقاعد الخلفية"، والذي اتخذته الروائية المصرية نهلة كرم عنواناً لروايتها الصادرة أخيراً عن "الدار المصرية اللبنانية"، إلى أحد أمرين: إما هؤلاء الذين يجلسون في الخلف كأنهم كاميرا سريّة تسجل كل شيء، يرصدون ويراقبون ما يحدث أمامهم دون أن يراهم أحد، أو أولئك الذين يجلسون في المقاعد الخلفية المظلمة ليفعلوا أموراً في الخفاء لا يريدون لأحد أن يراها.
وكلا التعريفين يمكن تطبيقه ببساطة على الرواية، غير أن التعريف الأول يبدو أكثر انطباقاً على الروائية نفسها، التي تشاهد، عبر فصول الرواية الستين، وتخلق وتصيغ من زاوية رؤيتها الخلفية شخصيات شديدة الواقعية، نكاد نلمسها بأيدينا من شدة ما نعرفها في حياتنا، بأبجديات هذا العصر، وبتفاصيله، وبهموم نسائه وقضاياهن الآنية.
 ورغم أن ما تسجله الروائية يبدو شديد العاديّة، بمعنى أنه مجرد سرد لقصص حب وزواج، إلا أن هذا سرّ جماله أهميته، إذ استطاعت الكاتبة أن تخلق من قصص معتادة ربما سمعناها من قبل أو عشناها أو رأيناها، حكاية متماسكة لشخصيات تبدو من الخارج غير ذات أهمية، إلا أنها صفحة بعد أخرى، تزيح عنها الغطاء الخارجي المتزن، لتكشف لنا عن باطنها المضطرب، وكأنها تستدعي خبرتها السابقة في الكتابة من تشريح نفسي لشخوصها، و تكمل ما بدأته في روايتها الأولى "على فراش فرويد".
تقدم نهلة كرم في روايتها الثانية "المقاعد الخلفية"، أربع حكايات متوزاية تتقاطع فيما بينها لأربع فتيات، لا تشبه إحداها الأخرى إلا في همها الأساسي، غير أنها جميعاً تقدم تشريحاً لمجتمع يلهث خلف الزواج للحفاظ على الشكل الذي خلقته العادات والتقاليد، وتزيح الستار لتكشف عما يعتمل في باطن هذه العلاقات، أو في الطريق إليها، وما خلقته هذه العادات من تشوهات فكرية.
لا تسعى نهلة كرم في روايتها، لأن تقول "كلاماً كبيراً" أو معقداً، بل تترك شخصياتها تتحرك، تترك الحكاية تقول ذلك، هي ببساطة تترك نفسها ـ مثل بطلتها سارة ـ لغواية الحكي التي تسحب القارئ عبر أكثر من أربعمائة صفحة، ليخرج بالسؤال الأكبر، عن العلاقة بين الزواج والأمان، هل لا زالت نفس العلاقة التي تربينا عليها؟ لماذا زادت حالات الانفصال إذن؟ لماذا تأخر سن الزواج؟ ماسبب الخرس الزوجي؟ لماذا يعزف الشباب عن الزواج؟ لماذا أصبحت الجموفوبيا هاجساً لدى الكثيرين؟ وإذا كانت هذه أسئلة تصلح لأن يقدم خبراء علم الاجتماع إجاباتهم عليها، فإن الكاتبة قدمت إجاباتها عبر حكايات محبوكة، تربط الماضي بالمستقبل بالحاضر، ولا تُبرّئ أحداً.
لا تُبرّئ نهلة الكرم الماضي بمعنييه: ماضي الشخصيات، أوإرثها المجتمعي. ولا تحرك شخصياتها بمعزل عن ماضيها، بل إن غواية "المقاعد الخلفية" التي أصابت البطلة الرئيسية للرواية سارة، جاءت في الأساس من حادث في مراهقتها ألقى بظلاله على جميع علاقاتها اللاحقة، على كل مستقبلها، بل قيّد هذا المستقبل، فربط المتعة بالخوف، لذا لم تعد ترغب في علاقة عادية، تريد أن تشعر بالخطر، حتى تشعر بالمتعة، فتلجأ إلى مقاعد السي تي إيه الخلفية، أو قاعات السينما المظلمة أو مداخل البنايات المظلمة. تحوّل الماضي الشخصي إلى مرضِ نفسي يطارد صاحبته، ويهدد زواجها.
لكننا في حالة منة نرى أن من يهددها هو ماضي عائلتها، وخوفها من تكرار فشل علاقة والديها، خوفها من أن يختفي حبيبها بسبب خيانة متوقعة طوال الوقت ـ حتى لو لم تحدث ـ كتكرار لما فعله الأب وهروبه. أما في حالة ريهام نجد أن من يهددها هو ماضي المجتمع الذي يؤمن بالخرافات من ناحية والرغبة في الزواج بأية طريقة، وفي حالة آية، فالماضي يهددها عن طريق الفهم الخاطئ للحب والارتباط، كما زرعه المجتمع عبر سنوات عمرها فيها.
ومن اللافت هنا أنه لا توجد في الرواية قصة حب سوية وكاملة من طرفين، سواء كانت في جيل الآباء أو الحاضر. إذن ربما يكون سؤال الرواية هو مدى نجاح مؤسسة الزواج بآلياتها الحالية، فما دام المجتمع يدفع إليه دافعاً، فهل يمنح الفتيات الأمان باستمراره؟  فنحن إزاء علاقة رتيبة  وباردة بين والدي سارة، وانفصال بين والدي منة، ونرى آباء وأمهات بلا أزواج (سواء والدة رامي، أو حماة ريهام، أو عمو حسين)، وكأن الروائية بهذه النماذج تبرر سبب حالة عدم الأمان والخوف من الخرس الزوجي والخوف من الزواج والخوف من البقاء وحيداً، التي تطارد بطلاتها الأربع طوال الوقت.
هذه ليست رواية "رومانسية"، تتكلم عن الحب، كما ظن البعض، بل أمام نص مهموم بأسباب انتفاء الحب في هذا المجتمع الهش، الذي اختارت لأحداثه لحظة زمنية شديدة التعقيد، بل ربما يكون المبرر الأبرز لاختيار هذا التوقيت (سقوط حكم الإخوان)، هو الإسقاط على المجتمع المتشقق والمتداعي تحت تحولات وضغوط سياسية واجتماعية واقتصادية انفجرت بعد أن ظلت  مكتومة طوال ثلاثة عقود.
وبحيلة ذكية تُسقِط نهلة كرم إرث الماضي على فكرة الكراكيب، وتقول كل ما تريده على لسان أبطالها بشكل غير مباشر عندما تبدأ بطلتها سارة تصوير فيلمها التسجيلي عنها. فالكراكيب/ الماضي/ التقاليد البالية، كلها "أشياء يمكن التخلي عنها بسهولة ومع ذلك لا يتخلى عنها معظم الأشخاص لأنهم يعتقدون  أنهم قد يحتاجون إليها ذات يوم، ولا يحدث هذا غالباً"، رغم أن "الاحتفاظ بالكراكيب في جزء منه، ضعف وعدم قدرة على استيعاب فكرة التخلي عن الأشياء". ورغم أن سارة كانت تسقط هذا المعنى على علاقاتها السابقة، بمعنى أنها تحاول الحفاظ على مسافة من علاقاتها العاطفية السابقة لاستعادتها إذا احتاجت، إلا أن الإسقاط الأكبر سيكون على رؤيتها للارتباط ذاته كما يراه المجتمع وكما تراه هي، لا سيما بعد أن تقع في حب رامي، فتصبح أكثر قابلية للقبول بشروط المجتمع وقواعده للارتباط.
ليس الماضي هو القيد الوحيد الذي يقيد الشخصيات، بل المجتمع أيضاً وهو يتبدى في فرضية وجوب الزواج، أو أهمية البحث عن زوج، حتى لو حاربته سارة  بالـ gmophopia فإنها في النهاية تستسلم له، وحتى لو حدت تخوفات منة من تكرار ماضي أمها فإنها تسعى إليه، وحتى لو سعت آية إلى الحب عبره، فإنها تعرف إنه الحائط الأخير الذي ستقف عنده، وحتى لو اضطرت ريهام للمقارنة بين أكثر من شخص، فلأنه لا إطار سواه، يجعلها تستسلم في النهاية تماماً لتسلط حماتها، ولزوجها الذي يبيع الشقة.
هذه رواية مهمومة بمعالجة نظرتنا للزواج إذن. الزواج كما يصوره المجتمع، أو كما تربينا عليه، وكيف ينظر أبناء هذا الزمن إليه، لكن يبدو من النهايات التي تضعها نهلة كرم لمصائر شخصياتها أن النهاية واحدة، نهاية تشبه نهايات قصص الزواج في العقد الماضي، أو الذي سبقه، أو حتى القرن الماضي، وهذا ليس عيباً في الرواية، وإنما محاولة لإثبات ما أرادات الروائية قوله من أن الطرق إلى الزواج قد تتغير، لكنه سيظل كما هو، تلك المؤسسة المحكومة بالتقاليد الشرقية، في مجتمع متداعٍ تحت قيودها. هذه القيود التي سنكتشف مع الوقت أنها ليست سوى "كراكيب" يجب التخلي عنها أو استبدالها بما يناسب العصر وشخوصه.
تبدأ الرواية بسارة وهي تتلصص من مقعد خلفي على عاشقين في قاعة السينما، وكأنها تستعير عين المؤلفة كما ذكرنا من قبل، وتنتهي الرواية بأملها أن يتحول "المقعد الخلفي" إلى ذكرى، بشرط وجود الأمان. بين هذين المقعدين تبدو نهلة كرم في روايتها الثانية حكّاءة ماهرة، تستطيع أن تأخذ قارئها من يده ليجلس في صمت، ويتابع حكاياتها، وانتقالها من واحدة إلى أخرى، بإصغاء مخلص، لروائية تقدم في روايتها "الحكايات" كدليل أمان، ومفتاح حل، فبسببها أحبت سارة رامي، وغادرت خوفها.  وربما في حكايات نهلة كرم الجميلة ما يضيء ظلام المقاعد الخلفية للجميع.
..................
*نشر في موقع 24

السبت، 10 أغسطس 2019

"أنا أروى يا مريم"لـ أريج جمال.. ثورة النساء المهزومات


محمد أبو زيد
عن دار الساقي بلبنان، صدرت أخيراً رواية "أنا أروى يا مريم" للروائية المصرية أريج جمال، والتي تتتبع فيها مصير خمس نساء تطحنهن قسوة الحياة، وتقاليد المجتمع الذكوري، وثورة كل منهن بطريقتها الخاصة على أسوار ترتفع حولها يوماً بعد يوم، وتروي كل ذلك على خلفية طلقات الخرطوش في ميدان التحرير وقنابل الغاز المسيل للدموع في شارع محمد محمود، لتختلط ثورتان، لم يكتب لهما أن تكتملا.
من مريم إلى أروى إلى صدّيقة إلى أم كلثوم إلى سارة تتنقل أريج في عذوبة مؤلمة. كل واحدة تحمل جرحاً عميقاً، يفرضه كونها وُلِدت أنثى في مجتمع يدّعى التحضر لكنه لا زال يعيش ويشتهي عصر الحريم، لدرجة أن بعض النساء، خاصة الجدة التي لا قت ما لاقته من عائلتها، تفرض تعاليم هذا المجتمع على ابنها، وتدعوه للزواج بأخرى لتنجب له الولد الذي سيحمل اسمه أبيه.
الجراح التي تفتحها أريج جمال في هذه الرواية كثيرة، لكنها تمر عليها بيد جرّاح ماهر، حتى عندما تمر على قضيتين شائكتين هما العلاقة بين أروى ومريم، والعلاقة بين سارة وميشيل، لا يشعر القارئ بأنها تقصد الخوض في قضايا جدلية، بقدر ما يشعر أنها تفتح جراحاً مجتمعية طال تركها مغلقة حتى امتلأت بالصديد. لا يشعر القارئ أنها تسعى للإثارة، لأنها لا تسعى لذلك بالفعل، كل ما تريده هو أن تكشف جراحاً عميقة تمس أرواح أبطالها، وقضايا حياتية نراها كل يوم ونتلمسها في كل خطوة نخطوها.
يمكن القول إن "الهوية" هي سؤال هذه الرواية الحقيقي، الهوية بجميع مستوياتها، سواء كانت الوطن أو الجنس أو الدين، وكيف يتعامل المجتمع بسلطاته المختلفة (ٍسواء كانت سلطة الشارع أو الحاكم) معها، لذا فنحن طوال الوقت أمام نساء مقهورات سُلِبت هوياتهن، حتى في حكايات الحواديت التي تتقاطع مع حياة مريم، والتي تسمعها من أمها.
عنوان الرواية "أنا أروى يا مريم"، يحتمل أن ينطق بطريقتين فـ "أروى" يمكن أن يكون اسم الشخصية الرئيسية في الرواية، ويمكن أن يكون فعلاً مضارعاً بمعنى "يحكي"، وفي ظني أن الكاتبة تقصد المعنيين، لأنها تقدم الحكي كعلاج في النص، فماذا تملك النساء المقهورات غير أن يروين مآسيهن، تقول: "قالت لي إن الحكي هو المنقد الوحيد من الغم، لكنني عرفت أنه ليس المنقذ من الموت، ماما تحكي حتى ماتت"، لكنهن رغم ذلك لا يتوقفن عن الحكي، كأن حياتهن معلقة بهذا "الطقس"، كأن مريم حين تقرر أن تروي حكايتها لا يعنيها أن يسمعها أحد، كأنها تحكي للحياة نفسها، كما تقول الكاتبة.
وهكذا تبدو مريم عالقة في الحكايات والخيال، تتقاطع حياتها مع نساء حكاياتها، حكاية القرود، حكاية الأميرة النائمة، الأميرة في سوبر ماريو، حتى أن القارئ يمكن للحظة أن يعلق في خيال مريم، ولا يعرف الواقع من الخيال، كما لا تفرق هي بين الخوف والحقيقة.
رهان أريج جمال في هذه الرواية كان على اللغة. فأريج التي قدمت لغة أقرب إلى الشعر في مجموعتها القصصية الأخيرة "كنائس لا تسقط في الحرب"، تتحدى نفسها في هذا النص، لتقدم مستوى جديداً منها، كأنها تعيد اكتشافها، فتمزج العامية بالفصحى، لتقدم لغة خاصة، تعتمد في معظمها على "تفصيح" كلمات عامية، أو إعادة كلمات عامية إلى أصلها الفصيح، لتخلق في النهاية لغة جدلية تناسب كثيراً هذا النص.
هذه رواية هامسة، وعذبة كقصيدة شعر، ومؤلمة كهذا الوطن، الذي كانت تطل عليه أروى ومريم من نافذة غرفة في شارع شامبليون فتريانه ينزف، والهراوات الشرطية تهوي عليه، كأنهما تشهدان القيامة، الذي سألت مريم الله أن يقيمها، فقامت الثورة، استجابة لدعائها، وانتصاراً لكل النساء المهزومات.

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...