السيرة الشعبية الجديدة كما يكتبها محمد مستجاب

إذا كانت تيمات الكتابة معروفة ومحددة، كما قال النقاد الأوائل، فإن القاص محمد محمد مستجاب في مجموعته القصصية "ثعبان يبحث عن مشط"، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يقرر أن يصنع تيميته الخاصة، التي تنبني عليها مجموعته، تيمة تخلط ما بين الواقعية السحرية، والقص الشعبي، وتستحضر الراوي في ليالي الريف القديمة.

تيمة القص، كما يراها مستجاب، متعلقة برؤيته للكتابة،  والتي يلخصها في إهداء الكتاب الذي يهديه إلى والده، الكاتب الكبير الراحل محمد مستجاب، والذي بدا كأنه يلومه على أنه ورثه لعنة الكتابة التي يصفها بالهم الثقيل، ولأن الكتابة كما يراها مستجاب لعنة، فهي تستوجب منه أن يستحضر طرقه الخاصة في صياغة هذه "اللعنة"، حتى تبدو ذات طابع خاص، لذا فهو يلجأ إلى التيمة القديمة في القص وهي "السرد الشعبي"، غير أن يلبسها زيا عصريا.

يبدو القاص في بعض نصوص المجموعة، شبيها بذلك الراوي القديم الذي يجلس في مقهى، ويجمع الناس حولهم، ويحكي لهم أعاجيب الزمان، وأفعال الدهر، غير أنه يستبدل ربابته، في بعض الأحيان، بآلات موسيقية حديثة، ويستبدل النص الشعري، بقصيدة النثر، أو هكذا يبدو، ثم يمزج بين النوعين، ليقدم حالته الخاصة.

وكما يستعير مستجاب النص الشعبي، ليكون عماد مجموعته الجديدة، فهو يستعير موتيفاته، ومترادفاته، وأبطاله، فيطل البطل الشعبي في أولى نصوص المجموعة، كأنه قادم  من زمن غابر، لكنه ليس على طريقة علي الزيبق، أو الزير سالم، أو أبو زيد الهلالي، بل يقدمه مراكبيا، لكن سلاحه الرقص، ويقود بهذا الرقص والتحطيب ثورة شعبية في نهاية النص.

يلجأ مستجاب إلى كل آليات صناعة البطل في القصص الشعبي، من حادثة ميلاد البطل، واغترابه عمن حوله، متناولا عالم البطل في تكونه حتى تنتهي مرحلة العبور وهي مرحلة التعرف والاعتراف، لتكون آخر الظواهر الخاصة بالبطل هي الاعتراف به والتعرف على هويته وقدراته، ثم النبوءة أو قدر البطل، فلا يوجد بطل لسيرة لم يرتبط ميلاده بالنبوءة، فهي ترتبط بوجوده الفعلي، وتحدد له مصيره المعد له، والدور الذي سيلعبه في حياته طوال أحداث السيرة.

ويمكن تطبيق كل تلك المفردات بسهولة على بطل قصة "هارون"،  الذي يعيش طوال عمره داخل قاربه، ويقدمه باعتباره شخصا مختلفا جديرا ببطولته "لا يبدأ أية حركة بالقدم اليسري، ولا يمد يده اليسري قبل اليمنى"، و "كل واحد في كل نجع في أي ركن يعرف هارون، وكل واحد في كل نجع تحت أي خص، يزعم أنه قريب هارون، وكل الجدود ثم فسائل الجدود لا يتكلمون عن هاورن كما  يتكلمون عن جيرة النجار ابن الكلب، فهارون في القارب، والقارب يتحرك بمجدافين، والمجدافان يمزقان الماء لأن هارون في القارب"، ومن المهم هنا الالتفات إلى الجمل التراكيمة التي يكتبها مستجاب، القصيرة، الغنائية، التي تقدم نسج الأسطورة التي يقدمها والتي يمكن اعتبارها بديلا لقافية الراوي الشعي.

ولأن هارون بطل شعبي، فله خوارقه الخاصة "يمسك العقربة بأنامل يابسة ومدربة من زبانها المتوترة الملتوية"، ومختلف عن الآخرين "لا يضحك مثلي ومثلك، ولا يقهقه مثل عبد الصبور السقا الذي دفعته قهقته العالية المشهورة أن يسقط في الإبراهيمية، ولا يتقلص وجهه كما يتقلص وجه عبد التواب حسنين"، وترتبط أيضا طريقة التشبيه التي يتبعها مستجاب هنا، بالراوي الشعبي الذي يعرف كل شخص في القرية، ويضرب بهم المثل في روايته.

هارون يبدو بطلا أسطوريا، فهو لا يغادر قاربه، منذ أن رست سفينة نوح واستقرت على اليابس، لا يربطه بالأرض إلا الرقض والتحطيب، كما أنه يبدو كمن يصل بين عالمين، بقاربه الذي ينقل به أهالي القرية عبر الشاطئين، لكن أسطورته الخاصة تبدأ عندما يقرر أن يشهد الحق مرتين، في جريمة قتل، وتبدو القرية التي تضع يدها أسفل خدها وتنام، بحسب وصف مستجاب، منتظرة لتحقق بطولته، التي يحققها بالتحطيب، والرقص، فيصبح بطلا يقود الجماهير ضد عائلة الجربان، غير أنه في النهاية كعادة البطل الشعبي الذي يختفي "ترك هارون القرية،  واعتلى قاربه وتركه للتيار، ليظل ما حدث في الحلقة أنشودة قومية للقرية النائمة"، ويصلح هذا النص الهام لمحمد مستجاب لقراءة رؤية القاص للكتابة، حيث يستلهم فيه تراثه الشعبي بالكامل، وأدواته الفنية، فيصيغ نصا، كأنه قادم من بطون القادم، لكنه مضمخ برائحة الحاضر، وتقنيات الفن الحديث.

لا يتخلى مستجاب في النصوص التالية عن استلهام تراثه الأدبي، وإعادة صياغته، ففي قصة " فصل مجهول من سيرة الملك الملعون شهريار"، يعيد صياغة القصة الأشهر في تاريخ الأدب في العالم، ليقدم شهريارا آخر، وشهرذاد أخرى، تلائم العصر الحديث، ففي استهلال طويل يعرف شهريار بأنه أول من استن نوم القيلولة ويقظة الفجر وتدمير التاريخ والإحسان للأعداء ونشر العولمة"، فإذا كان النص الأصلي قدم  الملك باعتباره ملكا عاديا فإن مستجاب يقدمه أسطوريا يكلم الله، يستسلم للوهن كوزراء العصر الحديث والتفاهة كمسلسلات التليفزيون على حد وصفه، ولهذا تأتي شهرزاد مختلفة أيضا، غاية في العادية، حيث تهرب في النهاية مع بائع أكواب وصحون، ليعيد مستجاب صياغة النص حسب رؤيته الخاصة التي تتناسب مع عصر  آخر.

وكما يستعير مستجاب من التراث الشعبي لغته، يستعير أيضا من تراث الأدب العربي فكرة الاستهلال، والتي كانت في الشعر تبدأ بالنسيب، وفي التراث النثري بالصلاة على النبي، غير أن مستجاب يقدم استهلاله الخاص في كل نص له، والذي قد يبدو لأول وهلة بأنه غير ذي صلة بالنص، غير أن القارئ يدرك أن تلك طريقة مستجاب الخاصة في الرواية.

السخرية هي إحدى التيمات الأساسية التي يعتمد عليها مستجاب في الكتابة، وإن كان ذلك ليس بشكل مباشر، عن طريق رواية الحكايات الساخرة، ولكن عن طريق النصوص التي تسخر من الأفكار السابقة التعليب، فهو إذا كان في نص شهريار يسخر من إحدى أشهر القصص في العالم، فإنه في قصة المجد، يسخر من أسطورة العرب صناع الحضارة، والتي يستهلها بمقدمة طويلة تبدأ ب" المجد لقومي" في كل فقرة، الذين عاشوا في الصحاري والوديان والسهول، بعيدا بين غضون الاتساع الرحيب للصحراء وعلى صلصلة السيوف وامتطوا السباع وتعمموا بالثعابين، وتقف  على مناكبهم الصقور، لينتهي الأمر  بطلبه "حصول قومي على مجدهم وتراثهم مقابل تعويض مادي مناسب"، حيث يقدم رؤية شديدة السخرية والمرارة، من ذلك التاريخ الذي نحمله على ظهورنا، بينما نعيش  في حاضر عالة على العالم، وهو ما أراد الإشارة إليه في هامش النص بقوله "قومي تخلصوا من ماضيهم وهم في راحة من البال".

ومن قصص المجموعة والتي تحمل فكرة متفردة، قصة "الثعبان الأسود"، حيث يتحول بطل النص "سمعان"، إلى محور العالم في تلك اللحظة، ويتتبع مستجاب مصائر أشخاص مختلفين في أماكن مختلفة على غير ذي صلة، في اللحظات التي يتغير فيها مصير سمعان من الحياة إلى الموت بعد أن لدغه ثعبان، وتبدو صعوبة النص في ربط هذه المصائر بمصير بطل النص، في حالات الفرح والحزن والولادة والموت، لتطل الفكرة الفلسلفية التي يريد مستجاب أن يصدرها من النص.

يلجأ مستجاب في بقية نصوصه إلى استلهام التراث الشعبي في ثيماته المختلفة، فيختار نبوءة في قصة "الموت"، وثيمة الثأر في النص الذي حمل نفس الاسم، غير أن اللافت هو الصيغ  الجمالية البليغة في تركيبة الجملة عند مستجاب، فبالإضافة إلى لجوئه للجملة الغنائية، فإنه يقدم صورا شعرية مدهشة، فيقول في قصته الراعي "في قريتي دائما القدر بطيء"، أو "كل مجداف يمسح عن وجه الماء الدموع"، يقدم نصا كاملا عن أسباب اختفاء القمر في قصته المغارة.

يقدم محمد مستجاب في مجمموعته القصصية "ثعبان يبحث عن مشط"، نصوصا تخصه، ولغة يمسك بتلابيبها، وعالما يعرف أبعاده جيدا، يفتش في تاريخه الأدبي، ليعيد صياغته، يستفيد من الحكاية الشعبية، ومن السير ومن فنون القص المختلفة، قديمها وجديدها، ويقدم نصوصا جديدة، تنضح بالموهبة والجمال.