الاثنين، 27 يوليو 2015

"على حافتين معاً".. ديوان ضد رتابة الحياة.. والقصيدة




في حوار مع الشاعر والروائية الأمريكية كيم أدونيزيو تقول إنه لا يمكن للشعر أن يكون قاضياً ولا أن يطلق أحكاماً نهائية، وتضيف " حتى عندما تحاول أنت تفسيره، لا يمكن لك أن تخلص إلى نتيجة محددة. الشعر يقف على مسافة من الأنا، والأشياء، إنه أكثر نقاوة، لكنه لا يمكن أن يظل مثقلا بالامور الإيديولوجية والفلسفية والمبهمة. عليه أن يكون قريبا من الجميع، وغير ضعيف في الوقت ذاته".
تبدو هذه هي الأرضية التي تتحرك من خلالها الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها "على حافتين معاً"، الصادر أخيراً عن دار الدار بالقاهرة، وفي قصائد أخرى متناثرة منشورة لها، إذ تنطلق في قصائدها من محاولة إعادة تعريف القصيدة المتعارف عليها، وطريقة كتابتها، بالنسبة لها على الأقل، والبحث عن معنى "الشعر" في التفاصيل الصغيرة، دون أن تصدر أحكاماً قيمية، وساخرة في الوقت ذاته من كل القضايا الكبرى.
تبدو سارة عابدين في ديوانها مهتمة بالتجريب في كتابة القصيدة، بالحديث عن القصيدة ذاتها، لذا نجد الشعر حاضراً في الديوان مرة بالحديث عنه ومرة بالبحث عنه في تفاصيل الأشياء.
تتحول القصيدة من حالة الكتابة إلى تفصيلة يومية معاشة، وتتحول التفاصيل المعاشة إلى قصائد، لذا فالصلاة تكون بالشعر "أتقرب لله بالشعر/ أذبحُ قصائدي قرابين على عتباته/ علّه يرضى ويأخذني في كنفه/ ليناقش معي/ القضايا الشعرية الكبرى"، بل هي تعتبر القصيدة نظاماً لتنسيق الفوضى "ربما تساعدني على تنظيم فوضاي الداخلية، وتفسير أحلامي السريالية جدًا".
الكتابة نفسها حاضرها بكثافة، في محاولة لتبرير فعل الكتابة نفسه، أو التأكد من حقيقيته، أو كأنها تكتب لنفسها نصوصاً لن يقرأها أحد، فتبدو أشبه بالشعر الاعترافي "عندما أكتب، أستلهمُ من كل قبيح، القبح يعري النفس البشرية/ تلك المادة الخام للكتابة الشعرية المتفردة/ ما من شاعرِ وصف مشاعره/ عندما تنغمس قدمه في روث البقر/ أويهاجمه جيش من الخنافس السوداء المكتظة".
القصيدة في ظن سارة إذن، ليست القصيدة التقليدية، ذات القوافي والتفعيلات، وقواعد الصرف والنحو "الشعرَ مشاعرٌ مندفعة لا تهتم كثيراً لعلوم النحو والصرف"، القصيدة هي التي تصنعها بنفسها، وتشعر بتفاصيلها بين سطورها،بل هي تنحاز إلى قصيدتها، إلى اختيارها الجمالي، لذا تقول إنها "عنصرية ضد الأدب صاحب الرسالة وضد الشعر المتماثل بثبات، وضد قصائد ايمان بكري وهشام الجخ والكتابة النسوية وضد نوال السعداوي، أحب أن أكتب الأسماء فأنا لا أفهم من دون امثلة، ولا أجيد استخدام الاختصارات"، لذا فهي لا تسعى إلى صنع صور شعرية، غارقة في التشبيهات، منهكة من كثرة المضاف والمضاف إليه، هل لا تبدو مهتمة بذلك على الإطلاق، القصيدة بأكملها تتحول إلى صورة شعرية "مشبعة" للقارئ فور وصوله إلى آخر كلمة، تاركة إياه في حالة من الاندهاش الذي لا تصنعه صورة اعتيادية، بل طرح فلسفي، ومحاولة الإجابة على سؤال لم تطرحه الشاعرة، لكنه يغلف كل القصائد.
يمكن القول إن سارة عابدين تسعى إلى قصيدة شعبوية، ليس بالمعنى الشعبي، ولكن قصيدة تصل إلى الناس، وتتماس مع تفاصيلهم وحياتهم ونزواتهم واهتماماتهم، قصيدة يمكن أن يقولها أي عابر سبيل في الشارع " فـ"الكتابةالحقيقية لا تحتمل كثرة التأويلات والتشبيهات، المريعة في كل جملة، يكفي ان أصف ما يشعر به الآخرون، دون قدرة علي التعبير عنه/ عندئذ يبحثون عن كتاباتي لتلمس مشاعرهم الخفية/ يتساءلون بين أنفسهم : كيف لم نكتب ما تكتبه/ إنه تافه جدًا !! ، إنها نفس مشاعرنا/ وربما تكون كتاباتي محفز جيد للمحاولة". هذا القارئ العادي الذي تعرف دوافعه للقراءة، بل وتسخر منها "لابدَّ من بعض الأسرار حتي يجد الآخرون سبباً لقراءَتها، بنفس شغف قراءتهم للروايات الإيروتيكية"، هنا تطرح سارة إشكالية القارئ والشاعر، وأسئلة الشعر وماهيته، وفي واحدة من قصائد الديوان الرائعة تتحدث سارة عن أسباب كتابة الناس للقصائد، في سخرية رائقة "الشعرَ تافه، لا يحتاج مقدمات، أو حبكات درامية، وشخصيات رئيسية"، غير أن هذه السخرية المبطنة، تكشف عن اعتقادها الحقيقي بصعوبة الشعر، حتى مع الشروط التي ذكرتها، وأهمية الكتابة رغم ذلك "أكتب لأضفي قيمة على حياتي، وأنسي أن وجودي على الحياة، مجرد وجود طارئ ومتخيل".
السخرية الوثابة هي إحدى أدوات البناء النصي في قصيدة سارة، فتسخر من كل شيء من الأشياء الكبيرة والصغيرة على حد سواء، بنظرة سوداوية أحادية إلى العالم، تسخر من قصيدتها، ومن القضايا الكبرى " لا أعرف كيف أختارالعناوين/ أحاول استلهام العناوين الكبرى/ لتعطي قيمة لنصوصي التافهة جداً/ لكن ليس بقدر تفاهة/ تلك العناوين الكبرى"، تسخر سارة عابدين من ذاتها، ومن قصيدتها، ومن كتابتها " أكتبُ قصائدَ تافهة/ لا تستحق القراءة/ لا يوجد بها وحدة عضوية/ أو مضمون ووزن وقافية/ لكني أكتبُ ربما أجد بعض الأغبياء/ الذين يثنون على سخافاتي/ لأنهم لا يستطيعون فعل ما هو أكثر".
هذه السخرية تمتد إلى ما يمكن اعتباره مقدسات التراث البشري، فتكتب قصيدة عن تفاهة سيوران " لماذا اقرأ لهذا المدعو سيوران/ أناأكتبُ أفضل منه"، غير ان هذه السخرية القاذعة تبدو مبطنة سخرية سوداء، مبطنة بنظرة قاسية تجاه العالم المرعب الظالم "أملك قلبًا جاحدًا يبكي ألماً/عند انتهاء مغلفات الكابتشينو/ أكثر مما يتألم لمرأى دماء الأطفال".
سارة التي تسخر في ديوانها من القضايا الكبيرة، تبدو قصيدتها شديدة الانشغال بهذه القضايا، بالعدل والمعرفة، والحياة، والموت، والفقر والغنى، والراديكالية والخوف والعجز وترقب الشيخوخة، بالإجابة على الأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى، التي تسخر في قصائدها من إجاباتها المعتادة، حتى لو لم تقل هذا، أو تدعي أنها لا تريد أن تقوله.
صورة القارئ العادي الذي يكتب الشعر، هي الصورة الأبرز التي تسعى سارة إلى تصديرها في ديوانها، فتبدو في قصيدتها كأم تتحرك في منزلها، وتبحث عن القصائد في تفاصيل حياتها حتى تستطيع تمضية الحياة، وتبدو الكتابة هي ملاذها لتغيير هذه الرتابة "أكتب/ لأنني أشعر بالغثيان"، تبحث عنها في البوتاجاز، وفي المطبخ، وفي الستائر، وفي طبق الغسيل، وفي التراب أعلى المنضدة، وفي علب الأدوية، تتحرك سارة في قصيدتها كأنها تتحرك في بيتها "أقلب الأرغفة فوق الشعلة/ أحاول تذكر الحلم المفقود/ حتي أكتبه قصيدة"، تبدو كل تفاصيل المنزل التي تشغل بال أي سيدة عادية تعيش حياتها حاضرة بكثافة "عروق زنجبيل تنمو بسرعة أسفل سجادة السماء/ لتصبح أشجاراً باسقة تخترق الوعاء الذي حفظت فيه/ وتطيح بدولاب حفظ التوابل ليسقط فوق الفرن الكهربائي"، وتتبدى مهارتها في تحويله إلى شعري لافت، مرة بالسخرية من تفاصيل حياة سيدات المنازل الرتيبة، ومرة بالبحث عن شاعرية هذه التفاصيل شديدة الاعتيادية إلى شعري مبهر جدير بالاكتشاف" أمرر سبابتي في تجاويف الزخارف الخشبية للدولاب/ يخرج إصبعي محملاً بغبار كثيف".
يقول الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك: " مُلهِمات الشعر طبّاخات. الشّعر نوع من فنّ الطّبخ. أقسّم قصائدي بين مُقبّلات ويخنات وحلوى"، وهذا ما تفعله سارة عابدين التي تضع يدها على قصيدة مختلفة، قصيدة قادمة من أدق التفاصيل الحياتية، قصيدة تبحث عن الشعري في أحبال الغسيل وترتيب الملابس حَسب خلفياتها الذكورية والأنثوية والملابس المطرزه التافهة ومستحضرات التجميل وطلاءات الأظافر الحمراء وترتيب الملاءات ولعبة الكلمات المتقاطعة وووضع المعجون الأحمرعلى فرشاة الأسنان البرتقالية، وحبيبات الراني التي تعلق في فتحة العلبة الأسطوانية، ومُصفف الشعر المُخنث والمشروبات الغازية القاتلة.
كل الكلمات السابقة التي تبدو كأنها قادمة من سلة غسيل سيدة منزل تافهة غارقة في نمط الحياة الاستهلاكي، ولا علاقة لها بالشعر، تتدفق منها الشعرية في قصائد سارة عابدين، وكأنها تبعث إليها بالحياة، لكن أجمل ما في الأمر أن سارة تفعل هذا عن وعي "عندما أرغب في الكتابة/ أستطيع تحويل كل تافه إلى قصيدة"، وهو ما تقوم بع بالفعل، بل تبدو كمصور بارع يلتقط صورة رائعة في خرائب لا ينظر إليها أحد.
قصيدة سارة هي كتابة ضد العادية، عادية الحياة ومللها، عادية ورتابة التفاصيل، في مديح سيدات المنازل المنغمسات في العادية، والأمهات المنغمسات في تحضير الإفطار وغسل الملابس، كتابة عن الغثيان، ودم الحيض، والحمل، وملابس الحمل: "دائماً ما تؤرقني هذه الفكرة في شهور الحمل الأولى، يظن المارون من حولي أني امرأه ذات بطن بارز ،ولا أحد يهتم بالقيام لي في عربات المترو المزدحمة، أحاول إتقان الدور وأضع يدي خلف ظهري دون فائدة "
في قصيدة لتشارلز بوكوفسكي عنوانها "تريد أن تصبح كاتباً" يقول: "إذا لم تخرج منفجرةً منك، برغم كل شيء فلا تفعلها/ إذا لم تخرج منك دون سؤال/ من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك/ فلا تفعلها، إذا كان عليك أن تجلس لساعات/ محدقاً في شاشة الكمبيوتر، أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة،/ باحثاً عن الكلمات/ فلا تفعلها"، ويبدو أن سارة عابدين وضعن وصابا بوكوفسكي في ذهنها قبل أن تكتب، فكتبت قصيدة الخاصة، المتفجرة من الذات، التلقائية إلى أقصى حد، الكاشفة، والتي تسعى لكشف العالم، ومواجهة العالم بعريه، لذا فهي تخلع جلد قصيدة، حتى تبدو كهيكل عظمي، لترى من يجرؤ أن يراقص مسخاً، بل تبدوالقصيدة أحياناً مكتوبة بشكل علاجي، كما كانت تفعل الشاعرة البارزة،آن ساكستون، عندما تكتب عن ذاتها، والذي يكون اعترافاً غاضباً لكن له مفعول المهدئ ، سارة لا تكتفي بكشف ذاتها، وتفاصيل العالم المملة، والبحث عن علاج لذاتها بالكتابة، بل تكشف الغطاء عن العالم ليبدو مسخاً أكثر، تصيد المشاعر الصغيرة الشاردة، وتشحن قصائدها بالشجن الذي يستمر مع كل قصيدة، تعيد تشكيل الأفكار التقليدية وتصنع منها نصاَ بديعاً مثل قصيدتها التي تقول فيها "نخزن ملابسنا في الدواليب وأشياءنا في الأدراج ونقول سراً لأنفسنا، سنحتاجها فيما بعد ربما نخسر وزننا من جديد فتناسبنا ملابسنا مجدداً ،ربما يكبر ابنائنا ليرتدون أحذيتنا التي لم تعد تناسب أقدامنا أو نرزق بمولود جديد تناسبه البطانيات الصغيرة وملابس أطفالنا القديمة ..لكننا لن نبقي هنا غدا، ولن يذكرنا أحد سوي ذلك الغريب الذي يرتدي أحد معاطفنا في برد الشتاء".
رغم أن "على حافتين معاً" هو أول دواوين سارة عابدين، إلا أنه يأتي وكأنه قد سبقته تجربة شعرية كبيرة، لا يبدو مثل التجارب الأولى إطلاقاً، بل كأن الشاعرة هضمت تجارب كثيرة من قبل، ثم قدمت تجربتها الخاصة والمميزة واللافتة، والتي ستلفت الأنظار اكثر وأكثر في كل ديوان جديد. سارة عابدين صوت مميز. فاستمعوا له. وانتظروه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...