تبقى القصائد ـ سواء كانت تتكلم عن الحب أو الحرب ـ في
وجدان القارئ لأنها تمس تفاصيل صغيرة بداخله ، لأنها تضيء مصابيح انطفأت في روحه
، وفي ديوانها الاول " تقفز من سحابة
لأخرى " الصادر عن دارفكرة تقدم
الشاعرة غادة خليفة ، قصائد تنفذ مباشرة
إلى هذه التفاصيل إلى هذه المصابيح ، متخلصة من إسهاب البدايات ، غارقة في حالة من الطزاجة الشعرية
تربك قصائد الديوان سكينة المتلقي " لِماذا أوَدُّ
أَن أُربِكَ سَكِينَتَك " ، وتقدم نصا يتجاوز فكرة فكرة الانغلاق على الذات ،
عبر علاقات إنسانية تضع المتلقي و شخصيات الديوان في مأزق وجودي .
تبدو العلاقات بين الشخوص في الديوان بسيطة و محيرة في
آن، شديدة الوضوح من زاوية رؤية الشاعرة ، وشديدة التعقيد حين تقرر أن "
أُحارِبُكَ بَدَلاً مِن أَن أُحِبَّك
" لكن علاقات الحب الذي يبدو
أفلاطونيا ، تواجه بتعقيدات العالم ، فتلجأ الشاعرة للعزلة ، العزلة التي تبدو " جارِحَة كَزُجَاجٍ مَكسُور يؤلِمُ
جِدًّا وَلا يُرى " ، يجب هنا أن
أتكلم عن جمال هذه الصورة ، حيث تكتب الشاعرة بعين فنانة تشكيلية ـ وهي القادمة
بالأساس من هذا العالم ـ فهى ترسم صورة تراها،
لذا تجيء كل الصور الشعرية في الديوان شديدة البساطة ، والنفاذ إلى المشاعر في
آن ، ومثل قولها " اسمي بلا أجنِحَةٍ
أو عَجَلاَت أَوْ خَيْطٍ صَغِير " ، أو حتى الصور الشعرية التي تصف حالة مليئة بالشاعرية " أمْشِي أربَعَ مَحَطَّاتٍ كَي أُسَرِّبَ
مَشَاعِرِي "
بعيدا عن تعقيدات النقد ، فهناك مدخلان جيدان لقراءة الديوان
: الأول هو مفهوم الإدهاش الشعري، فثمة جملة فاصلة في قصيدة " الأربعاء " بإمكاننا قراءة الديوان كله من
خلالها " صَارَ الوَقْتُ مُشْمِسًا
وَالدَّهْشَةُ حَقِيقِيَّة " ، فإذا كان أحد أهداف الشعر الأولى أن يكون
مدهشا ، فهنا يبحث النص / الشاعرة عن الإدهاش الحقيقي ، فالعالم الوحشي الذي تحول
إلى غابة كما تبين قصائد عدة في الديوان لم يعد مدهشا ، الإدهاش في الديوان لا
يعتمد على تراكمات البلاغة ، ولا على الجمل المتناقضة ، ولا على المبالغات ، لكن
على " فوران المشاعر " حتى تطغى على تفاصيل اللوحة ، على المؤلم غير
المرئي الذي عندما نستشعره بالفعل نتوقف لنبكي ، حتى لو بدت الجمل اعتيادية مثل
" قَلبُكَ مُوْصَدٌ جَيِّدًا "
، أو حين تتحول " أكوَابُ الشَّاي
" إلى " َجَائِزَةٍ كَبِيرَةٍ
لا نَستَحِقُّهَا " ، أو "
أكْتُبُ خِطاباتٍ كَثِيرَةً بِلاَ عَناوِين أُرسِلُهَا مَعَ السَّحابِ الأَحمَر
إِلىَ رَجُلٍ وَحِيدٍ يَجلِسُ مِثْلِي مُنْتَظِرًا سَحابَةً صَغِيرَةً " غير
أنها تتجاوز اعتياديتها في سياق النص ، بل إن بعض القصائد القصيرة في الديوان
عبارة عن لوحة تشكيلية غارقة في الإدهاش الشعري غير المباشر " أجلِسُ على مِقعَدِك / مُحَاطَةً بِالجاكِيت / الَّذِي
كُنْتَ تَلْبَسُه / َأشعُرُ بِالدِّفءِ الغامِر / لأنِّي بَينَ ذِراعَيكَ "
الجنون كمهرب هو مدخل ثاني ملائم لقراءة النص ، ولمواجهة العالم القاتم "
قَرِيبًا جِدًّا سأُجَن " ، فتتحول الشاعرة إلى امرأة " تَنسِجُ ثَوبَ
الزِّفاف مِنْ خَيطٍ وَحِيدٍ يَتَدَلَّى مِنْ كُمِّ قَمِيصِك " ، لكى تترك القارئ في تساؤل حقيقي للإجابة على
سؤال من يقف على عتبة الجنون : العالم أم النص
، جنون الشعر في كلتا الحالتين محمود، لكن الشاعرة هنا تسعى للجنون لأنه
بشكل أو بآخر مرادف للخلاص والانعتاق "
سَيَقُولُون "مَجنُونَة"
وَيَترُكُونَنِي كَي أعِيش " ، ودائما هناك آخرون يجب الخلاص منهم ولو بالجنون لأنهم يعرقلون حيواتنا " ماذَا لَو أنَّني لَستُ
أنا؟!سَيُعْلِنُون فَشَلِي فِي اصْطِيادِ حياة "
حالة الحب الأفلاطوني الطوباوي التي يطرحها الديوان ترتبط
بالألم بشكل أو بآخر ، فيغدو "
الأَلَمِ المُموَّهِ بِالحُب " أو حب مموه بالألم ، أو الحب / الألم ،
فلا الولد هو الولد ، لأن " الرِّجَالُ الحَقِيقِيُّون لَن يَسْقُطوا مِنَ
السَّماء "، و لا البنت راضية بأن تكون هي البنت التي يراها الناس في الشارع
، يصبح سؤالها عبر القصائد " متى يرى الناس / الولد ذاتي ؟ " وتتحول في
النهاية " ظِلاًّ خَفِيفًا لامرَأةٍ
أُخرَى " .
عدم الرضا عن الذات / العالم ، يحيل إلى فكرة التحول ،
الطيران حتى لو كانت مع غراب أسود تراقبه ، ويراقبها ، تريد أن تتحول لفتاة
أسطورية تقفز من سحابة إلى أخرى ـ في قصيدة بديعة بالفعل ـ تريد أن تطير
" عَبرَ سَمَاءٍ تَتَّسِعُ لاخْتِلافِنَا " لاختلافها هي تحديدا
، والهروب مع الغراب ليس إلا مخرج من مأزق مواجهة العالم/ البشر ، لذا تكون آخر جملة في الديوان " لَن
أنظُرَ بَعدَ الآن في عيني أحد " ، فإذا كان الجحيم هو عيون الآخرين ،
فالعالم هو هذا الجحيم ، يبدو عدم النظر هنا هربا من عالم بأكمله ، إلى عالم آخر
تستطيع أن ترى أناسا تصدقهم ، أن تلعب بطفولة ، أن تقابل "ست حسن و شاطر حسن" حقيقيين، أن تقفز من سحابة إلى أخرى كما تريد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق