الأحد، 26 يوليو 2015

"عندما لا أكون في الهواء".. حدائق الشعر التي اكتشفتها رنا التونسي

بعد حوالي خمسة عشر عاماً من إصدار ديوانها الأول "ذلك البيت الذي تنبعث منه الموسيقى" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، ثم خمسة دواوين أخرى، تختار الشاعرة المصرية رنا التونسي أن تصدر مختارات شعرية   من دواوينها تلقي من خلالها إضاءات هامة على تجربتها الشعرية، وذلك في ديوانها الأخير "عندما لا أكون في الهواء"، والصادر أخيراً عن منشورات الجمل.
تكشف القراءة الأولى للديوان عن السمات الأسلوبية التي تميزت بها تجربة رنا التونسي كاملة، كما تلقي نظرة أكبر على عالمها الذي كان يتسع من ديوان إلى الآخر، فالتجربة التي بدأت بالاهتمام الشديد بالذات، ثم انفتحت بعد ذلك على العائلة في الدواوين التالية، تحولت في ديوانها "السعادة" إلى الانفتاح التام على العالم، وتماهي الشخصي مع الكوني، كما تكشف أيضاً عن تطور بناء القصيدة لها من النص الطويل، انتهاء إلى النص شديد القصر المكثف والذي يتكون من سطر واحد، لكنه رغم ذلك يأتي محمّلاً بشحنات شعرية عالية مخزنة داخلها، تجعل القارئ يتوقف أمامها طويلاً، ربما أكثر من نص يتكون من عدة صفحات. وهذا التطور في فهم الشعر، وفهم أبعاده وبنائه ورؤيته، توازي مع إصرارها منذ ديوانها الأول على عدم وضع عناوين للنصوص، إلا فيما ندر، والاكتفاء بالترقيم بدلاً من ذلك، لتعطي القارئ انطباعاً بأنه يقرأ نصاً واحداً طويلاً، يكتمل من ديوان لآخر، هو نص الحياة كما تراها، الحياة التي بدأت بها، بذاتها، ثم فتحت الباب ليدخل العالم بأكمله، وفي كل هذا يمكن للقارئ أن أن يرى بسهولة ذلك السلم الذي صعدته الشاعرة خطوة خطوة، وكل لبنة وضعتها في جدار تجربتها الشعرية، دون ضجيج، لكن بفهم ووعي شديدين وحساسية حقيقية تجاه مفهوم الشعر.
أول ما يلفت النظر في تجربة رنا التونسي من خلال قراءة مختاراتها، هو أنها تسعى طوال الوقت إلى بناء عالم افتراضي موازٍ للعالم الذي تعيشه، ربما للهرب إليه من عالم لا تجد نفسها فيه، أو يمكن القول إنها تعيد فك وتركيب العالم شعرياً، لكي يكون على مقاسها، وعلى مقاس أحلامها، مرة عن طريق السقوط فيما تسميه حفر الخيال "لذلك كنت تجدني دوماً أسقط في حفر خيالي"، ومرة بالابتعاد عن الواقع ذاته:
"أفكر في أنهار تبعدني عن العالم
خريطة تقلبني على وجهي خائبة"
وهذا العالم، من الممكن أن يكون شبيهاً بالسينما التي تبدو لها عالماً موازياً، تستحضرها طوال الوقت، فمرة تجد نفسها في فيلم طويل تتمثل فيه حياة أبطاله:
"كانت هوايتي
تقمص شخصيات بطلات الأفلام
خاصة في مشهد القبل والألم والوداع"
هنا نجد رنا التونسي تخلق عالماً موازياً، حياة أخرى ربما لم تستطع التحصل عليها في الواقع، لكنها رغم ذلك تنتقل إلى عالمها الجديد بنفس طريقة حياتها، فلا تجد نفسها حتى في تلك الأفلام إلا وحيدة، فكما كانت وحيدة في الحياة الأصلية ستكون كذلك في الحياة الافتراضية التي صنعتها:
"أحب الحياة في الأفلام وحدي
حالمة بقوارب كثيرة تأتي لإنقاذي
ترسو على شاطئ بحر أحبه"
هنا نحن أمام بحر "نكرة"، وقوارب "نكرة"، لأنها غير معروفة حتى للشاعرة، ولأنها تبحث عن أي "بحر" وأية "قوارب"، للهرب، هي فقط تحلم بهذا العالم الآخر الذي يطل عليها من خلف شاشة بيضاء،  لا تعرفه لكنها تريده، ورغم وحدتها الاختيارية إلا أنها تستحضر أحبتها "أحياناً يخيل إليّ أن... أمي دخلت الفيلم ولا تريد أن تخرج من القبلة". ومرة تفكر في الذهاب إلى السينما لأنها تعني لها الحياة الحقيقية، التي تحتوي على نهايات مغلقة لا دوائر ملونة لا تنتهي تجد نفسها فيها في نص آخر:
"أحب الذهاب إلى السينما
وترك أحلامي
تنام خلسة على أذرع الجالسين.
أحب الذهاب إلى السينما
والحياة بحق".
وبما أننا نتحدث عن السينما هنا، فإننا إذا استخدمنا مصطلحاتها هنا، يمكننا القول إن "ماسترسين" هذا الديوان هو نص قصير شديد التكثيف لكنه شديد البلاغة مع ذلك "طفولتي بلا صور، كأني لم أكن"، هنا تتنصل الذات الشاعرة من العالم، لأنها لم تجد دليلاً على وجودها من قبل، فكونها موجودة هنا مرتبط بأنها محبوسة في صور، لكن لأنها استطاعت التحرر من ذلك تعتبر نفسها غير موجودة، وربما يكون هذا مبرراً قوياً لها لإيجاد عالم آخر، والرغبة في إيجاد هذا العالم، تبدو رغبة في التمرد على العالم الأصلي،  وهذه الرغبة الكامنة في التمرد تتواصل  حتى في العالم الجديد
"لو كان لي بيت سري
لطلبت أن تسكن بجانبي
أن تصبح عشيقاً سرياً
حين لا تكون هناك حاجة لوجود أسرار"
فرغم أنه لا حاجة لذلك في العالم الجديد/ البيت السري، إلا أن الرغبة في كسر ذلك، في التمرد، في الاحتماء بكسر الاعتيادي والرتيب طوال الوقت يبدو هو المبرر هنا ، لذا فهي تتمرد على هذا البيت في النهاية وتغادره "لشربت قهوتي على الرصيف، قرأت الجريدة في الشارع"، هو التوق إلى الحرية إذن حتى من البيت الافتراضي الذي ستصنعه.
الطريق الممتد إلى العالم الجديد، يجعل رنا التونسي في حالة سفر دائمة "لم أعرف نفسي إلا مسافرة"، مع كل ما يرتبط بذلك من انتظار، وترقب، رغم أنه لا يوجد وصول أبداً. نحن أمام رحلة طويلة إذن ولأن العالم غير معروف وغير مكتمل، تبدو الرحلة بلا هدف، ولم تنطلق إلا رغبة في الرحلة نفسها والخروج والانعتاق من بوتقة الذات/ العائلة/ العالم، على التوالي، في محاولة للبقاء والهرب.
"أشعر أني أجلس في قطار بضائع ممتلئ
يهتز بي
ولا أعرف وجهته"
لا ترى رنا الطريق، لكنها تسعى إليه، وتعدو إليه رغم ذلك، "كل يوم قبل أن أذهب إلى النوم، أريد أن أتلو صلاة، وأن ترى روحي طريقاً"، والمفارقة بين البيتين الأول والأخير في هذا النص قولها "أريد أن" ولا تقول إنها تفعل ذلك، أو ستفعله، كما لا تتحدث في البيت الأخير عن ذاتها بل عن روحها. والروح هنا تبدو حبيسة الجسد، ولا تسمح لها الشاعرة سوى بالتفكير برؤية الطريق دون رؤيته بالفعل.
وبعيداً عن المقاربات الحياتية، وإذا نظرنا إلى النص بشكل مجرد، فنحن أمام شعور بالغربة، خارج الوطن، وداخله، وربما يكون هذا مفتاحاً للتفكير في عوالم أخرى، ولقراءة العديد من نصوص الديوان:
"عندما عدت إلى بلدي
أحسست أني فريق كرة قدم
وجدت يدي تلعب في التراب
وأنه عندما أريد ان أرجع
لا يبتسم لي الطريق".
ونحن هنا إزاء إحساس المطرود، المطارد، المكسور، الغريب عن العالم، الذي بلا وطن، ولا أحد في استقباله، لذا يبحث عن عالم آخر، لذا يفكر طوال الوقت أن يقفز مبتعداً، أو ينتظر من أحد أن يفعل ذلك
"أجلس في المكان المقابل لباب الطائرة
شخص ما فتح الباب
ونسي..
نسي تماماً أن يركلني"
ويبدو حضور "الطائرة" هنا ضرورياً في الرحلة التي تقطعها رنا التونسي، تماماً كما يحضر "الغياب" الذي يبدو أكثر قسوة من استخدام مفردة "الغربة" أو "السفر"،  يحضر "الغياب" كرد فعل على العالم، ويبدو اللجوء إليه كلجوء إلى بيت معروف لها، بل تعطفه دائماً على كلمة قريبة إليها وحميمية "العابرون فقط، الذين قابلتهم للتو، هم أفضل من يسكن القصائد والغياب"، وقولها "حفرة كبيرة تمتد بقدر رؤى العالم، فلا أرى منها سوى الغياب والضحك" ففي الحالة الأولى تعطف الغياب على القصائد، وفي الثانية على الضحك.ومعنى الغياب تقدمه رنا التونسي بهذا الشكل "أفكر كيف يمكن أن أرسل لك وطني الجديد بطاقة بريدية، كيف سيمكنني أن أسند الأبراج التي تريد أن ترتاح على يدي والعيون الأجنبية، لا أحد يحمل معي هذا الغياب". فيبدو الغياب هنا ثقيلاً كالجبال وتنوء بحمله، والغياب الذي يستدعي الحديث عن الغرباء بشكل تلقائي تراه رنا التونسي بشكل مختلف "حين نلتقي في زمان ما، في مكان لا يسكنه غرباء يعرفوننا، ربما سيمكنني أن أحبك"، نحن هنا أامام حالة غربة كاملة. غريبة في مجتمع من الغرباء، فعلى الرغم من أن سيماء الغريب أنه لا يعرف أحداً، إلا أننا هنا أمام مجتمع من الغرباء يعرفون بعضهم ـ وهو ما يكسر حالة الغربة بالضرورة ـ رغم ذلك لا تريد أن تبتعد عنهم، واللافت هنا هو أن رنا التونسي بدلاً من أن تتبنى رؤية الذات الشاعرة تتبنى رؤية الآخر "غرباء يعرفوننا"، وهو ما نراه أيضاً في نصوص أخرى لها مثل قولها: "غادرت عائلتي وتركتني"، فمن الذي غادر هنا ومن الذي ترك الآخر؟ هذه الحالة من الإدهاش غير المتعمد، والذي يفيض شاعرية تبدو إحدى السمات البارزة في صور الديوان الشعرية.
وفي العالم الذي تشكله رنا التونسي يبدو حضور "الحُلم" ضرورياً لإنهاء ما بدأته، وتشكيله كيفما تشاء: "أحلم أن أستيقظ يوماً في الصباح، أمسك البحر من غمازتيه، أشده من ملابسة المبتلة"، لكن ربما يبدو السؤال الأهم هنا: ما الذي تسعى إليه رنا التونسي من هذه الرحلة؟ والإجابة ربما تكمن في آخر تتحدث إليه دائماً، آخر غير موجود، لكنها تخاطبه وتبحث عنه طوال الوقت، لا يبدو موجوداً بشكل حقيقي، بل هو طيف، لا يفعل شيئاً سوى ألا يكون موجوداً، لكنها تسعى إليه كأنه مجرد مبرر لمواصلة الرحلة الرحلة/ الحياة/ القصيدة:
"سأرحل وحدي نحو بلاد جديدة
منتظرة أن يلاقيني شخص ما
ويسألني عن الشعر".
هذا الآخر تبدو مستعدة أحياناً للتماهي معه تماماً مقابل الرحيل "عندما تشعر بالخوف يا صديقي، احملني معك، قنينة فارغة، رسالة لا تأخذها إلى أحد، وتاريخاً قصيراً، تهرب منه الأشباح"، وربما يؤكد هذا المعنى تأكيدها الدائم على فكرة الوحدة، سواء في العالم الحقيقي، أو العالم الذي اكتشفته، أو العالم الذي صنعته من أفلام السينما:
"على أبواب المدن المتأخرة
والضحكات التي تأتي بغير حساب
سأقف وحيدة ومنكسرة
لا أعرف تماماً
متى بدأ ذلك الضعف يتسلل إلى جسدي
ومتى بدأت روحي في الذبول
رغم سنوات الجلوس
بجوار معاطف الأحباء".
فهي هنا تكتفي بالجلوس بجوار "معاطف" الأحباء، وليس بجوار الأحباء ذواتهم، نحن هنا أمام الذات الشاعرة التي تكتفي بالوحدة، لدرجة أنها تجلس بجوار معاطف فارغة للأحباء بدلاً من أن تجلس بجوارهم، لكنها تحاول أن تتخيل أن بها أشخاصاً، بها الآخر الذي تنتظره أو تسعى إليها، لكنها رغم ذلك تعرف أنها وحيدة "كنت أنتظر عفاريت تظهر ليلاًـ وتخبرني أني فعلاً وحيدة برغم  كل تلك الحكايات التي تسكنني"، والوحدة هنا ليس لأنها اختارت أن تكون وحيدة، بل لأن لا شيء في العالم دونها حتى إذا فتحت الأبواب والنوافذ على العالم " لا أريد أن أخرج من البيت هذه الليلة، كلما فتحت باباً أطلت عليّ وحدتي كالعفريت"، وهنا تتحول الذات الشاعرة نفسها إلى سجن، مع رغبة دائمة في التحليق بالخارج: "أسمع صوت الحياة في الخارج، من سيفتح لي الباب لأخرج مني".
ورغم أن رنا التونسي تبدو كمن اكتشف حياة جديدة في مكان آخر وتسعى إليها، إلا أنها تبدو طوال الوقت في حالة من التردد بين المغادرة إلى هناك والبقاء في وحدتها، "يمكنني أن أكذب وأقول إني كنت أريد أن أكتشف العالم، لكني في الحقيقة كنت أريد أن أصحو كل يوم في بلد أجنبي جديد، أحلم أني أعلق في شباك الصياد، أو أني الصياد واللؤلؤ والبحيرة".  وهنا تستوي كل الأمور أمامها، فلا فرق بين الصياد واللؤلؤ والبحيرة، فقط يهمها المغادرة فقط. وتبدو هذه الحالة من التأرجح بين العالمين في نصها "هناك فرحة العودة، وفرحة الرحيل، وأنا لا أعرف أياً منهما". وهي لا تعرف أياً منهما لأنها وحيدة في كلتا الحالتين، ولأنها في منتصف طريق لا تعرف أوله ولا آخره، كمن قطع طريقاً لا يستطيع العودة ولا إكمال الطريق ويبدو أنها راضية بذاك لأن ذلك يجعلها وحيدة: "الآن، وأنا وحيدة تماماً، لا شيء يفرق ييني وبين وحدتي"، ونلاحظ هنا استخدام كلمة "شيء" وليس "أحد"، وكأنها تدرك أنه لا يوجد أحد أبداً، كما أن الأشياء والجمادات المسلية ذاتها لا تستطيع حتى فعل ذلك، لذا تبدو كمن "أتأرجح وحدي في السماء، ونجوم صغيرة تسطع في يدي"، وهذه النجوم أرواح الذي غادروا وهي نجوم الغياب والوحدة والسفر، الكلمات الأكثر استخداماً في هذه المختارات، تأمل مثلاً هنا معنى كلمة "عطب" والتي تعني تعطل الحياة في هذا النص: "أشعر بعطب من عاش مدة طويلة، أو كبر فجأة في الغياب".
وما بين خلق عالم جديد ومحاولة الهروب إليه، والبقاء في العالم الحالي تبدو رنا التونسي مترددة طوال الوقت:
"عندما شاهدني أستاذي المطرود من جنة الألم
قال: من الضروري أن تخرجي من الشرنقة
واعجبتني كلمة شرنقة
شرنقة
شرنقة
ففضلت المكوث".
لذا فهي تفضل دائماً البقاء على حدود يفصلها نهر، بجوار "معاطف الأحباء" والتفكير في العالم الذي اخترعته لكنها لا تجرؤ ولا تريد حتى الذهاب إليه، "من خلال النهر، كنت أفكر بك، وكيف يمكن أن يفتقد المرء، حياة لم يعشها قط"، هذه الحياة التي تتحول إلى ورطة على قدر ما بها من غرائبية "سأنجب ثلاث سمكات صغيرة من رجل لا أعرفه، أو أعرف كيف أعيدها إلى الماء"، وهنا تلجأ إلى الصمت والبقاء في مكانها ومراقبة العوالم المختلفة "الكلمات الأكثر عادية تخيفني، تصبح كالأغلال في قلبي، أريد أن أذهب إلى البحر، أراقب ذلك الغياب القاسي وهو يعتصرني"، وأيضاً "أحياناً لا أريد أن أتكلم، أريد أن أتحرك فقط في دوائر غير مكتملة من الضوء"، وتكون النتيجة دائماً أنها تتلصص على الحياة من مكانها لأنه "لا كتاب يحملني، لا شفاه تقرأ الكلمات في السر"، وربما ساهم في هذا التفكير دائما في الغربة، والحياة في وطن بديل "عندما أعود لا أريد أن أكون فراشة أو مطراً، لا أريد أن أبعث من جديد، إلا إذا كنت أنت هناك واقفاً تنتظر".
تترك رنا التونسي في كل هذا مساحة من الخيال ليتحرك القارئ فيها، ما بين عوالمها التي تتنقل بينها ببساطة، عن طريق تغييب الضمائر، حيث لا يعرف القارئ من هو المقصود، هل هي الذات الشاعرة، أم المخاطب الغائب أم القارئ نفسه، ليطرح احتمالات عدة، يجد في كل منها معنى مختلفاً وجديداً للنص "أفتقدك. قارب ورقي صغير يسبح في الخيال"، وذلك عبر صور شعرية شديدة الجمال والبساطة.
رنا التونسي بارعة في صناعة صورتها الشعرية الخاصة بها، والتي لا تشبه أحداً سواها مثل "وضعت يدي على شعلة القلب وأطفأتها"، و"ملوثة بكل حلوى الطريق". في هذه الصور لا تعتمد الشاعرة فيها على المجاز بقدر اعتمادها على إعادة تشكيل الحياة، ودمج الحواس، وهذه إحدى فضائل التخييل الشعري الذي تعتمده رنا "عازف البيانو طارت أصابعه داخل جسد الراقصة"، و"كانت طفولتي حبيسة أدراج أبي"، ولا تتعمد رنا التونسي هنا صنع صورة مدهشة، بل يأتي ذلك متسللاً داخل النص ويمكن أن نلمحه بوضوح في قصائدها شديدة القصر، التي يتحول فيها النص إلى صورة شعرية شديدة البساطة والجدة في آن.
تبدو رنا التونسي في شعرها، كأنها اكتشفت حديقة من الشعر الجميل، لكنها قررت في هذا الديوان أن تقدم باقة منها هنا. وتعبير "الحديقة" يبدو هو الأقرب لقصائد رنا، ولتوصيف رؤيتها للكتابة والحياة "الحديقة تكبلني بأغصانها المورقة، وأنا وحدي أعرف موطن الجمال فيها، الحديقة تكبلني، ورائحة صراخ يذكرني بالمحيط، وكتاب أخير وبشر يخرجون منه".

لا يعني إصدار مختارات شعرية أن الشاعر أنهى تجربته، بل ربما يعني أنه انتهى من مرحلة وبدأ مرحلة أخرى، أو أنه قرر أن يتوقف ليلقي نظرة سريعة على ما قدمه خلال الأعوام الماضية. وخمسة عشر عاماً، هي عمر طويل في زمن الكتابة، خاصة إذا تمخضت عن ستة دواوين لافتة وشديدة الأهمية والخصوصية كما نرى في تجربة رنا التونسي، صنعت فيها اسماً خاصاً وقصيدة خاصة، وتمكنت فيها من بناء عالمها الشعري المتميز، والذي لا يشبه أحداً، والذي يجعلنا نترقب دواوينها القادمة لنرى مصير العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...