تبدو العائلة والبيت الصغير، والتفاصيل الحياتية البسيطة، هي السمة المميزة
لدواوين رنا التونسي السابقة، منذ ديوانها الأول "ذلك البيت الذي تنبعث منه الموسيقى"،
وحتى ديوانها قبل الأخير، ويمكن ملاحظة ذلك ابتداء من الإهداء العائلي دائماً في كل
الدواوين، مروراً بالشخصيات التي تستحضرها، والتفاصيل اليومية المنزلية، واستطاعت رنا
في هذا كله أن تصنع عالمها الخاص الملفت، والمغاير، والمميز.
غير أنها في ديوانها الجديد "السعادة" والصادر أخيراً عن دار
الجمل، قررت أن تتخلى عن هذا العالم، إلا قليلاً، لتنسج عالماً جديداً، والأدق أنها
تبدو كمن يجلس على أطلال العالم وينظر إلى الخراب أمامه، وتلقي القصائد التي تبدو أقرب
إلى أحكام قاسية على هذا العالم ونهائية. لذا تبدو القصائد قصيرة، أقرب إلى الهايكو
الياباني، بدون عناوين، كما اعتادت ان تفعل دائماً، مختزلة ومكقفة، وتحمل طاقة شعرية
هائلة، وتختزن داخلها تجربة شعرية قصيرة، قررت أن تختزلها في سطر شعري أو سطر ونصف،
فيأتي محملاً بالدلالات، مغرقاً في البساطة المدهشة، متحرراً من كل القيود الشعرية
التقليدية، ليقف القارئ أمامه متأملاً طويلاً، أكثر مما يتأمل قصائد بالصفحات.
يبدو الديوان إذن أقرب إلى خدعة لقارئ رنا المعتاد، فهي لم تقدم عالمها
المعتاد، بل تخلع جلدها وتقدم عالماً آخر، بل يجد القارئ نفسه أمام ثلاث عوالم، العالم
القديم الذي تبدو ملامحه في الجزء الأول من الديوان "السعادة" والعالم الآني
كما يتبدى في الجزء الثاني من الديوان "صحراوات"، وعالم تسعى إليه، للهرب
من عالمها الآني الذي تحيله إلى عالم متخيل حتى تستطيع التكيف معه.
في هذا العالم يحضر الأموات كشخصيات حقيقية، تبدو ملاذاً أحياناً
"أحياناً يخيل إليّ أن والدي يتحدث على الهاتف مع جدتي التي ماتت منذ أعوام قليلة"،
بل يبدو أن الهرب من هذا العالم إلى عالم آخر مواز هو الملجأ حتى لو كان مجرد تهيؤات
"أن أمي دخلت الفيلم ولا تريد أن تخرج"، وحينها يتحول العالم كله إلى عالم
افتراضي كما يرسمه خيال الشاعرة "أني سأنجب ثلاث سمكات من رجل لا أعرفه"،
ليبدو المخرج في النهاية هو خروج من العائلة التي كانت سمة الدواوين الأولى "سأكتشف
عائلة جديدة في تونس/ عائلة من الأشجار السابقة/ أعانقها طويلاً كالرياح/ وأتركها تسرق
الكوابيس بهدوء من صدري/../ وأهتف في صدري/ ينبغي أن أبحث لنفسي عن عائلة جديدة"،
هي ليست إذن ثورة على العائلة، بمقدار ما هي ثورة على العالم الذي تنتمي إليه هذه العائلة/
لذا يبدو الحل "عيني تجلس هناك/على سلم خشبي مهجور/ سيصلني حتماً إلى السماء/فقط
إذا أحببت".
عالم العائلة يبدو مغلقاً "داخل تلفاز قديم/ صور بالأبيض والأسود/
وأنا لا أعرف كيف أسمعك"، يحد من الخروج منه، ويمنع حتى وصول الصوت، لكن رغم ذلك
يبدو حميمياً "تنادي عليَ/ فتطير جونلتي/ رغم أني داخل المشهد"، هذا الصوت
هو الخلاص بالنسبة للشاعرة، الذي يحررها من أسر العالم المعتاد، والذي تخاطبه في آخر
الديوان "عندما أعود/ لا أريد أن أكون فراشة أو مطراً/ لا أريد أن أبعث من جديد/إ
لا إذا كنت واقفاً هناك تنتظر"، ومصطلح البعث هنا، يوحي بأنها تعتبر أن ما قبله
مواتاً، لذا يبدو العالم الآخر هو الانعتاق نحو الحياة، والحرية".
فكرة "المغادرة" و"الغياب" هما الفكرتان الأساسيتان
التان تسيطران على الديوان، المغادرة إلى عالم آخر، وحياة أخرى، وعائلة أخرى، بعيداً
عن هذا العالم البائس، لا تلبس إلا أن تكتشف زيفهما، ويبدأ ذلك من الاقتباس الذي صدرت
به رنا ديوانها لكازانتزاكيس "كل ما كان مطلوباً هو الوجود المستمر لقلوب تتذكرني"،
والغياب في عالم آخر بلا ملامح تقريباً، "صحراوت" أخرى قاحلة، كما سمت قسم
الديوان الثاني.
في "صحراوات" يبدو العالم الآخر قاسياً وموحشاً لا شيء فيه سوى
الوحدة المفروضة هرباً "لا أريد أن أخرج من البيت هذه الليلة، كلما فتحت باباً
أطلت عليّ وحدتي كالعفريت"، فرغم أن البيت هنا يوازي الوحدة، إلا أن اخارج البيت
أيضاً يعني نفس الشيء، لذا تستعيد عالمها الأول الذي هربت منه في الجزء الأول
"حلمت أن أبي يحملني في عربة خشبية صغيرة/ تطوف بي أماكن تبدو وكأنها البيت/ حلمت
أن عيني تجذب مساحات الأرض الشاسعة/ أطفالاً تائهين/ أعقاب سجائر وغمازات".
والملاحظة في هذا الديوان، في صراع العوالم المتوازية ـ إذا جاز التعبيرـ
هو أن العائلة لا تحضر إلا في حلم، أو صورة، أو تخيل، لكن لا وجوداً حقيقياً لهم، تماماً
مثل معظم الشخصيات الأخرى التي تبدو كأنها متخيلة، أو مغادرة، أو مستحضرة لقتل الوحدة
والائتناس، لكنهم في النهاية شخصيات مستقبلة وغير فاعلة غير قابلة للحوار، تماماً مثل
العالم الجديد الذي يبدو هشاً "نظرة تجذبني إلى خيال جديد وجغرافيا/ تبدو صامدة
فقط كلما ابتعدت".
في العالم الجديد، يبدو الاكئئاب مقابلاً لمرح الطفولة، وتصبح الكلمات
العادية مخيفة، لذا تحاول الهرب إلى فضاء جديد "أريد أن أذهب إلى البحر/ أراقب
ذلك الغياب القاسي وهو يعتصرني"، هنا يتداخل معنى الغياب، ما بين غياب الذات الشاعرة،
وغياب العالم الذي احتفت به في دواوين سابقة لها، فذاتها تعاني من الخواء أحياناً وتبدو
كـ "بناية خلت من سكانها/ قصفها الجنود وقت الاحتلال"، تفضل الصمت
"أحياناً لا أريد أن أتكلم/أريد ان أتحرك فقط/ في دوائر غير مكتملة من الضوء".
محاولات الهرب تدفع رنا إلى خلق عالم جديد، تتخيله وراء الباب، خارج البيت
"أسمع صوت الحياة يغرد في الخارج/ من سيفتح لي الباب لأخرج مني"، لكن هنا
يتضح أن الباب أو البيت أو العالم ليس أكثر من الجسد، الذي استحال سجناً، توحد مع العالم
الموازي، فأصبح جزءاً منه يرفضه من الداخل، ويتفاعل معه كأنه جثة من الخارج، تكشف عن
ذلك في قصيدة أخرى "يتحول وجهي إلى طرق وصحارٍ/ أشعر أني أركض/ أشعر بالعطش ولا
أحاول العثور على قطرة ماء"، وربما يفسر هذا لنا لماذا تبدو كل الشخصيات في الديوان
بدون أية ردة فعل، كأنها محبوسة، حتى الذات الشاعرة نفسها، والإجابة هي أن كل هذا يدور
في الداخل، بعد أن أستسلم الجسد للخارج "عندما أرى السقطة في خيالي/ سأعرف أني
لم أقع".
وعلى الرغم من ذلك لا يبدو الهروب حلاً، بل يبدو الغياب قدراً نهائياً
"أشعر أني أعدو خارج البحر/المسافات تأتي متأخرة/وخطوتي لا تقلب صفحة الماء"،
بل تغدو الأشياء كلها بلا معنى، وتفقد قيمتها "أيها الصباح المشغول بفتح عيني/
ماذا سيحدث إذا نمت طويلاً/إذا لم أفتقد الأغنيات أو طفولة تلعب بعيداً/من سأختار لأرجع
معه البيت؟"، وهو ما يجعل الحياة تتوقف كأنه اكتشاف مفاجئ مر بفقدان الذات، بالغياب
عن الحياة بعد سنوات طويلة "أشعر بعطب من عاش مدة طويلة/ أو كبر فجأة في الغياب"،
وتذكر هذه القصيدة الأخيرة لرنا التونسي بفيلم "زهرة القاهرة القرمزية" للمخرج
الكبير وودي آلان، حين يدخل أحد أبطال فيلم سينمائي إلى صالة العرض، ويهرب في الشوارع،
بل يمكن القول إن كل قصائد الديوان بها هذه الحالة، حالة البطل الهارب، وحالة البطلة
التي تجد نفسها متورطة في عالم خيالي بدا للحظة ملاذاً.
يقول كافكا: "الكتابة يجب أن تكون الفأس التي تكسر بحر الجليد فينا"،
وتبدو الكتابة عند رنا التونسي في هذا الديوان، هي الفأس الذي يحطم الحدود الفاصلة
بين العوالم، في محاولة للعودة، بل يمكن اعتبار أن بحر الجليد هو الغربة عن العالم،
التي تكتبها رنا في قصيدة جديدة مختلفة عن المعتاد في تراثنا الشعري العربي المعاصر
"أفكر كيف يمكن أن أرسل لك وطني الجديد بطاقة بريدية/ كيف سيمكنني أن أسند الأبراج
التي تريد أن ترتاح على يدي والعيون الأجنبية، لا أحد يحمل معي هذا الغياب"، هنا
تختزل رنا عالمين/ وطنين في أبيات قليلة، لتبدو ذاتها المتشطية بين مكانين عاجزة عن
فعل أي شيء سوى اختيار التلاشي والغياب الذي تختص به نفسها، والذي ينتهي بها إلى الوحدة،
الوحدة الصافية كأنها طعنة خنجر "الآن وأنا وحيدة تماماً/ لا شيء يفرق بيني وبين
وحدتي".
يمكن أن نرصد ملامح قصيدة الغربة في تفاصيل بسيطة في قصيدتها، مثل لافتة
"عمال يشتغلون"، والسماء الصناعية والبيوت التي تغير أصحابها، والعالم الذي
بلا أسماء، واللغة المعطوبة، والتلصص على الحياة، والطائرات المارقة، وأرواح لا تنكسر
يهديها الله للنائمين في الغياب، والبلد الجديد الذي اسمه المنفى، لكن ربما يكون أقسى
ما في الديوان عن هذه الحالة هو ما كتبته في قصيدتها "هناك فرحة العودة وفرحة
الرحيل/ وأنا لا أعرف أياً منهما"، حيث تبدو الشاعرة معلقة بين العالمين، لا تستطيع
مغادرة أحدهما إلى الآخر، وتملك حلماً ناقصاً بالعودة "عندما أعود/ تأكدي من وجودك
هناك/ سنقطع الطريق بالسكين/ونلعب بالحياة/ ولن نجرح بعضنا أبداً"، فتكتفي بالدعاء
"يا رب يصبح لنا وطن/ يا رب ترجع لنا الأيام"، أما أكثر قصائدها صدعاً بالألم
"لا طيور تقف قرب قلبي/كي أفتح لها قلبي/ أغني وحدي مع الوقت".
تصل رنا إلى حكمة الخاسر في واحدة من أجمل قصائد الديوان، التي تبدو أقرب
إلى رثاء للذات وللعالمين، ووصية وحكمة الميت الأخيرة الذي أدرك الحقيقة المرة فجأة
فباح بها كاملة، "يمكنني أن أكذب وأقول أني كنت أريد أن أكتشف العالم/ لكني في
الحقيقة كنت أريد أن أصحو كل يوم في بلد أجنبي جديد/ أحلم أني أعلق في شباك الصياد/
أو أني الصياد واللؤلؤ والبحيرة".
تذكر قصائد رنا هنا بما كتبته الشاعرة الأمريكية آن ساكستون في مذكرة انتحارها
"سوف أرحل الآن، دون شيخوخة أو مرض، بعنف ولكن بطريقة صحيحة تماماً، وأنا أعلم
أفضل طريق سأسلك"، فهكذا تكتب رنا غيابها القسري، الذي يأتي على طريقة ساكستون
أيضاً التي كتبت الشعر للعلاج كما نصحها الأطباء، حيث نجد بعض قصائد هذا الديوان تأتي
في محاولة للتصالح مع العالم، بعد الفشل في التمرد عليه.
ثمة آخر في الديوان تخاطبه الذات الشاعرة دوماً، يبدو الملاذ والملجأ أحياناً،
ويبدو سبباً للصبر والاحتمال، ويبدو مبرراً للبقاء في العوالم التي ترفضها. هذا الآخر
تثور عليه أحياناً، وتربت عليه في أحيانا أخرى، بل يبدو في أحيانا كثيرة أنه غير حقيقي،
وغير مرئي إلا لها، وغير موجود إلا في خيالها على عكس الشخصيات الأخرى، ولا يبدو إلا
أكثر من شماعة لتعليق المبررات "لو كنت أملك مفاتيح القدر، لمنحتك حججاً أخرى
للغياب"، ويبدو أحياناً أنه الشخص المستحيل "حين نلتقي في زمان ما/في مكان
لا يسكنه غرباء يعرفوننا/ربما سيمكنني أن أحبك".
لا تقدم رنا في ديوانها صوراً شعرية معقدة، بل صوراً أقرب إلى القصائد
الشعرية المتكاملة ممتلئة بالعمق والرهافة، بها الشعرية الخالصة المتخلصة من كل أكليشيهات
المحسنات البديعية، مثل رؤيتها للاكتئاب "أحارب الاكتئاب بقوة وهو يرتفع بي مثل
مراجيح الطفولة"؟، وهشاشة العالم "كانت روحي هشة/حتى أني كنت ألتقط ضحك العصافير
بيدي" وقصيدة رثاء قصيرة "ما زال وجهك يجرحني بابتسامة الخاسرين". وأجمل
ما في صور رنا هي التداخل المذهل بين عالمين، بين الواقع والخيال "أريد أن أركض
بدراجة مسرعة/ أصدم كل ما يواجه خيالي"، الصور التي تبدو أحياناً قاسية من فرط
رقتها "أبحث عن فراشة صغيرة/ لأقتلها بيدي وأتعرف على الرقة"، و" طفولتي
بلا صور/ كأني لم أكن"، و"أشعر أن صديقاً يمسك بي/ يرجني داخل زجاجة مكسورة"،
و"أبحث عن وجهي في عينيك/ كي أمسح عنه التراب".
تسمي رنا التونسي ديوانها السعادة، لكن الخدعة الثانية التي يكتشفها القارئ
في السطر الأخير للديوان أنه ديوان عن التعاسة والوحدة والانتظار والغياب، الغياب عن
البشر، وغياب البشر، تكشف ذلك في قصيدة لها "السعادة لعبة الغياب/السعادة لا تقرأ
وجوهنا/لا تعرف أن عليها أن تأتي سريعاً/ لتقف جوارنا/ إخوة في الانتظار"، هذه
كتابة عن الشجن والألم وليس عن السعادة، كتابة تدعو السعادة للوقوف في صف، يشبه صفوف
أسرى الحرب الذين ينتظرون رصاصة الإعدام.
قدمت رنا في ديوانها الجميل "السعادة" عالماً جديداً عليها،
ووضعت لبنة أخرى في عالمها الشعري المميز، نهلت من الواقع اليومي، لتُخرج العميق من
السطحي، اعتمدت على السردية والتكثيف والإضافة للقصيدة بالحذف، تخلصت من المجاز الشعري
التقليدي وصنعت قصيدتها بشاعريتها الخاصة، لتؤكد أن "السعادة" ليس مجرد ديوان
جديد، بل خطوة واسعة للأمام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق