تقول الروائية المصرية سمر نور في روايتها
"الست" الصادرة أخيراً عن دار العين: "العزلة وهم والوحدة
زائفة"، وفي ظني فإن هذه الجملة هي عتبة النص بالكامل.
فالرواية التي تدور حول فتاة تستقل بحياتها،
وتجابه "وحوش" الحياة، وتوحشها بأن تلوذ بعزلتها وتشهر وحدتها في مواجهة
العيون المتطفلة والأسئلة اللزجة، تقدم في
عدد من فصولها القصيرة شخصيات "وحيدة"، سواء اختارت هذه العزلة أم لا،
فلكل شخص منهم مأساته، حتى لو كان جزءاً من مجتمع كبير يموج بالتفاصيل، بداية من القطة
التي دهستها السيارة فلم يهتم بها أحد إلى النقاش الذي دهسه قطار العمل مبكراً إلى
الجار الذي يخبئ وحدته خلف لزوجته وتطفله إلى رانيا الكوافيرة التي تقبل بالضيم
خوفا من حياة جديدة لا تعرف كوابيسها إلى منال التي غنت رق الحبيب لأم كلثوم في
المترو إلى الصديقة التي تزوجت وطلقت وحصلت على استقلالها أخيرا، وتعقب الكاتبة
على الحالة الأخيرة بأن "هذا حدث منذ سنوات، وربما يحدث كل يوم"،
والجملة الأخيرة وإن لم تكن عائدة على الصديقة، فإنها تعود إلى مئات بل آلاف الحالات
التي تتصارع يوميا مع وحوش الحياة.
وإذا كانت الشخصيات السابق ذكرها لا تعيش
تجربة "الوحدة" بشكلها التقليدي، إلا أنها كلها شخصيات كسرتها الحياة بشكل
ما، وأجبرتها على اختيارات لم تكن في حسبانها، فتضطر أن تتفاعل مع تفاصيل أيامها،
لكنها تلوذ بآلام وحدتها في النهاية.
تلعب سمر نور على تنويعات
"الوحدة"، بما فيها "الاغتراب"، سواء كان داخلياً ـ داخل
الذات، أو داخل الوطن، أو حتى خارجه، من خلال شخصية "سمير"، الذي يعاني
من غربته خارج البلاد، وحين يقرر العودة إلى وطنه، لا يلبث أن يغادره مرة أخرى في
نهاية الرواية، وكأن سمر هنا تطرح سؤالاً كبيراً حول مفهومنا للغربة، وحول ما
نريده وما تفرضه علينا سياقات الحياة.
ومن الملاحظ أن لا شخصية تبدو حقيقية تماماً في
هذه الرواية، ونابضة بالحياة ونسمع ضحكاتها ونراها وهي تترجرج من الضحك، سوى شخصية
سمير، الذي تتكئ عليه بطلة الرواية في همومها، حتى شخصية "الحبيب" تبدو
وكأنها بلا ملامح حقيقية، ليس لأنها غير مكتوبة بشكل جيد، بل لأن الكاتبة فضلت أن
ترينا ظلالها فقط، في إشارة إلى أن هذا الحب غير المكتمل ربما لم يكن سوى ظلال
لمشاعر أخرى، أوأنها شخصية "مشوهة وغير جديرة بالثقة".
تجري الرواية تقريباً في عام ونصف، وهي
الرحلة التي استغرقتها البطلة في رحلتها منذ بدأت استقلالها بذاتها، وهي رحلة تتنقل
فيها بين ثلاثة عوالم متوازية، العالم الحقيقي الذي قررت أن تنأى عنه وتكتفي
بعزلتها، وعالم التواصل الاجتماعي الذي يظل افتراضياً رغم أنه يقطع عزلتها برنات
التنويه برسالة على واتس آب أو تعليق على تدوينة على فيس بوك، والعالم الذي اختارت
أن تبنيه في شقتها، بداية من اختيار ألوانها إلى موسيقاها إلى مملكة المطبخ، تلك
الشقة ، التي فضلت فيها أن تتخلص من كل ما هو زائد عن حاجياتها.
وفي هذا العالم الأخير، تلوذ البطلة بحواسها
الخاصة لبناء عالمها، بداية من الصوت (أم كلثوم الحاضرة في الشقة والمترو والشارع)
إلى الألوان (اختيار ألوان السماء والبحر والصحراء وبساط العشب للشقة ووأشعة الشمس
كأنها تصنع حياة موازية)، إلى الروائح التي تتذكرها فتأمل عليها حياتها بذكريات ضائعة، إلى علاقتها الخاصة بالنباتات، وكأنها
تصنع أرضاً أخرى تخصها هي فقط.
ويظل العالم الافتراضي هو الوسيط بين
العالمين الآخرين، فإذا كان الأول قد هربت منه، والأخير قد لجأت إليه، فإن عالم
التواصل الاجتماعي يبقى هو الوحيد الذي يكسر خصوصية العالمين، ولذلك تصبح العزلة
وهم والوحدة زائفة. تقول: "الخصوصية تنتهي حين تدرك أن شخصا ما في مكان بعيد
يمكنه معرفة ما يحدث في بيتك الصغير، حتى وإن فصلت بينكما قارات"، وهي تحاول
أن تبني عالماً افتراضياً بديلاً عن العالم الحقيقي رغم إدراكها أن "التكنولوجيا
هي مجرد وسيلة بث مباشر لرحلة كوكب الأرض نحو الزوال"، لذا لا تصدق تلك
المشاعر المجمدة في أيقونات، وربما تبدو الصداقة مع سمير حقيقية تماماً في
انتقالها ما بين العالمين الافتراضي والحقيقي، لأنها بدأت في العالم الواقعي قبل
انتقالها بين العالمين بعد ذلك.
ورحلة البطلة نرى الإشارة إليها في ولعها
بالنجوم، التي كان يستخدمها العرب في الماضي للاستدلال على الطريق في الصحراء، وهي
الصحراء التي تحبها بعد رحلة إلى سيوة مع صديقات من جنسيات مختلفة، كأنهن كن
جميعاً يبحثن عن طريقهن في البراح الممتد إلى ما لا نهاية، وتقول في الرواية: "أنا
اشبه هذا الجبار، هذا الصياد الذي يبحث عن ضالته في السماء"، وتضيف في موضع
آخر: "أكثر النجوم التي كنا نبحث عنها كان الدب القطبي لأنه سيرشدنا
للشمال"، وفي الأدب تتجه معظم رحلات الاستكشاف إلى الشمال.
غير أن الرواية لا تقول لنا نتائج هذه
الرحلة، وهل وصلت أم لا، لكنها تحكي عن دليل الرحلة، وهو الولع بالكتابة، رغم أن
"الكتابة لم تن أبداً كافية وتصلح للعيش، لكنها كل ما أستطيع فعله، فلنقل
إنها كل ما كنت أريد فعله، إنها ابنة اختياراتي في الحياة، فإن لم أعش بطريقتي،
فلا معنى لما أكتبه".
والكتابة ليست طريقة للعيش فقط، بل سلاح
أيضاً: "كنت أكتب لأقتل وحوشي، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع كل
هذا الوجع"، وأحياناً تكون الكتابة محاولة لتقبل العالم وفهمه "ربما
أحتاج أن أكتب كي أفهم"، أو كشفاء "نصحني كاتب الاطفال بالكتابة وقال
انها ستشفيني من الصدمة"، غير أنها تصل
في النهاية إلى هذه النتيجة "أكتب لأنني أعيش الحياة التي تموج بداخلي، ولن
تسكن من جديد إلا إذا توقفت عن الكتابة".
ربما يحيل اسم الرواية "الست" في
تلقيه الأول إلى السيدة أم كلثوم، وربما يبرر ذلك أغانيها التي تسمعها بطلة العمل،
أو تتسلل إليها من نافذة الجيران، وتقاطعها مع فصول حياتها، غير أني أظن أن اختيار
الاسم يبدو أبعد من ذلك، فـ "الست" في الوعي الشعبي المصري هي السيدة،
بل إن أم كلثوم أطلق عليها هذا اللقب، ليحيلها إلى رمز للمرأة بشكل عام (ليس
الفتاة ولا الآنسة ولا المتزوجة ولا المطلقة ولا العجوز، بل هي السيدة، بما يحمله
هذا اللقب من تقديس مبطن)، والست هنا ليست انعكاساً فقط لبطلة النص، بل لكل نساء الرواية
المقهورات، الوحيدات، الباحثات عن ذواتهن في صحراء سيوة، المناضلات ضد الحياة، وضد
المجتمع بذكوريته، ففي أحد فصول النص، يقول الجار اللزج: "هاتي لي راجل
أكلمه"، لكنها تقف وتواجهه حتى تشعر بانتصارها. ورغم ذلك لا أميل هنا إلى
تصنيف النص باعتباره أدباً نسوياً ـ الذي يعني وجود أدب رجالي بالمقابل ـ لأن النص
يتسع لهم إنساني عام أكثر من حبسه في تصنيف ضيق.
تضع سمر نور الرواية بين قوسين كبير، يبدأ
أولاهما في الصفحة الأولى من الرواية، بلقطة عين الطائر السينمائية، حيث تطل من
أعلى على عجوز يبحث عن "الاستئناس" بالحديث مع الناس، وينتهي الثاني في
آخر صفحة من الرواية، في لقطة ختامية واسعة، حيث تراه يخرج هذه المرة من المول للقاء
ابنته برفقة "الوحش"، بكل دلالاته المفتوحة في الرواية.
و"الوحوش" في الرواية، تحتمل أكثر
من تفسير، "نتبادل قصص الوحوش التي تطاردنا، يحدثني عن الغربة وأحدثه عن
الوحدة"، لكن ربما في إحدى تصوراتها هي
الخوف من الاستقلال والنظرة إلى المرأة. وربما هي وحوش الوحدة التي تحاصرنا رغم كل
هذا الضجيح حولنا (الحقيقي والافتراضي)، لكن بطلة الرواية تعرف أنها لن تنتصر على
هذه الوحوش سوى باستئناسها، والتعامل معها "إنني أعد نفسي لحياة الوحدة
القادمة وأنا بكامل صحتي، أرغب في التعود على الحياة داخل فراغ يخصني أملؤه بما
أحبه"، وخلق العالم الخاص الذي يساعدها على مجابهة هذه الوحوش، باختيار
ألوانها المفضلة في شقتها/ عالمها المثالي، والاستعانة بقصص وحيدين آخرين نراهم
حولنا في كل مكان، فنظن أنهم يضجون بالحياة، قبل أن نكتشف أنهم وحيدون تماماً.
وهنا تستفيد سمر نور، من تجربتها كقاصة،
فتقدم فصولاً قصيرة، أقرب للقصص القصيرة، حكايات متضافرة عن هم إنساني مغزول
بمهارة لتقدم نصاً روائيا جميلاً، يتنقل بين وحوش الغربة والعزلة والوحدة، قاصداً
الإشارة إلى وحش أكبر اسمه "الحياة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق