الاثنين، 27 يوليو 2015

"أقص أيامي وأنثرها في الهواء" لمروة أبو ضيف: عن جماليات الهزيمة وتبرير الخيبة



صدور بعض الكتب يصبح حدثاً سعيداً، من هذه الكتب ديوان ‘أقص أيامي وأنثرها في الهواء’، عن دار شرقيات، للشاعرة المصرية مروة أبوضيف، والذي تقدم فيه تجربة شعرية متفردة، جديرة بالقراءة والدراسة.
هل سمعتم الأوبرا التي ألفتها بمفردي من الأنين؟، الإجابة على هذا السؤال الذي يأتي في إحدى قصائد مروة، هي الديوان بأكمله، الذي يأتي أشبه بقصيدة أوبرالية واحدة طويلة من الأنين ونعي الذات والعالم، ومواجهة ذلك بالسخرية وإعادة تشكيل هذا الكون الذي غدى يقص أيامها وينثرها في الهواء.
تهتم مروة في ديوانها بالإجابة على سؤال الناقد الشكلاني رومان جاكوبسون ‘ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً؟’، فالسؤال الذي سعى من خلاله الناقد الروسي الشهير للوصول إلى مفهوم الشعرية، تجيب عليه مروة من خلال نصوص تمزج فيها ما بين السرد والشعر، ما بين صور مدهشة ورسائل متبادلة، والتناص مع نصوص تراثية، كما أنها تمتح في بعضها من التراث الشعبي، في محاولة لاستبطان الشعرية من كل هذا، فلا تغفل مروة الصورة الشعرية المدهشة، التي تبدو قوام الديوان الأبرز، لكنها في نفس الوقت تسعى إلى استخراج الشعر من المفردات العادية.
تذهب مروة إلى التراث الشعبي، وتعيد استخدام نصوص كلماته التي تبدو معروفة للأذن، لكن مروة تمنحها شاعرية قصائدها، مثل قولها ‘لا قمر ولا شمس ولا يحزنون’، و’بيني وبينكم.. لقمة العيش صعبة’، و’كلنا يسعى لجبر الخاطر’، و’صرفتُ الجِلد والسقط’، و’اعمل الخير وارمِهِ في البحر’ هذه الكلمات التي قد تبدو لأول وهلة كلمات نسمعها يومياً يتغير معناها عندما تصبح جزءاً من نص شعري، بل يعيد القارئ اكتشاف معناها من جديد، كما يقدمه الديوان
بالإضافة إلى هذا تقدم مروة صوراً مدهشة، ويمكن القول إن أكثر من يميز الديوان هو الصور المدهشة، والتي لا تأتي منبتة من القصيدة، بل جزءاً من صورة كبيرة فيها، ‘هل فرغتم من عد الفراشات، التي خرجت من بين أصابعي؟هل علق آخر الغرقى ملابسه، علي جدار قلبي؟’، وبهذا الشكل لنا أن نتخيل مروة وهي ترسم لوحة سريالية فيها ‘رأسي منزِلٌ مُهشّمٌ، لا يملؤه سوى صفير الرياح’، و’أخبط رأسي جيدًا، لتسقط منها الأشباح’، أو ‘ لغتي ناقصة بمفردات، تصلح لتلميع الأحذية’، وقولها: ‘الأرض تشبه برتقالة عفنة، كلما وضعتَ ثقلك على موضعٍ، غاصَ بك العفنُ إلى الأسفل’، هنا يصبح العالم كله جزءاً من صورة متخيلة، ‘تفاجئك بعنوان جريدتها المفضلة: مقتل بابا نويل علي يد قاتل محترف.
الشيء اللافت للنظر في هذا الديوان، أنه يكاد يخلو من القصائد التي تخلو من الحديث عن الحب والجنس الآخر، والذي يسم معظم الكتابة النسوية، ليحل بدلاً منه الحديث عن الخيبات الشخصية، ونعي العالم، هنا تكون الذات حاضرة أكثر من حضور الآخر، ربما لأنها تتجاوزه، بل إن الشخصيتين الأكثر حضوراً في الديوان هما ‘الله’، و’الأم’، الذين تكتب مروة إليهما جل قصائدها.
يقول بابلو نيرودا: ‘عندما أفتح النافذة في الصباح، وأرى قتيلاً ووردة، هل من الطبيعي أن أكتب شعراً عن الوردة’، لذا تصدر مروة ديوانها بمقطع، يمكن من خلاله قراءة العلاقة بين الشعر والحياة من وجهة نظرها، فهي تتحدث عن رغبتها في كتابة قصيدة، القصيدة كما يتخيلها الناس العاديون، عن العشق والولع، لكنها تنتقل من الواقع إلى الواقع المتخيل، لذا فلأن ‘السماء تلهو بشمس تشوي الفراشات علي مهل’. لذا تقرر أن تغني ‘لقطٍّ أسود, أو شارع يبتلع المارة، أو فالْس عسكريٍّ يصلح للقتلى, أو الإبادة الجماعية للآدميين لصالح الآلة’، وتقرر أن يكون ديوانها ‘عن جماليات الهزيمة وتبرير الخيبة’، إذن فدايوان مروة عن الجمال كما أرادت في البداية ، لكنه جمال الهزيمة، وبدلاً من أن تبرر العشق، تبرر الخيبة.
تتقاطع هذه المقدمة مع قصيدة ‘هدايا صغيرة لا تعجبكم’، والتي تنعي فيها العالم، لتؤكد هذا المعنى، وتؤكد رؤيتها للقصيدة ودورها وأهميتها بالنسبة لها: ‘كنت أود لو أبتسم بهدوء
ونحتسي شاينا معًا، لكن العالم مشغول اليوم بالحروب، والأطفال لم يذهبوا للحدائق. ربما غدًا نغني معًا علي الطريق، و نحتسي قهوة دافئة، ونبتسم جميعاً بصفاء بالغ، في رحلة الصعود إلى الله.
لكن المهزوم في الديوان، لا يكف عن السخرية، ربما في محاولة للنسيان، وتبريراً للخيبة، لذا فهي تسخر من الشمس، ومن البحر، ومن الليل ‘مرةً عايرتُ الليل بلونه:أسود ولا يصاحبه سوى المنسيين’، هذه الحالة المدهشة من السخرية، تمتد على طول الديوان
روتينية الحياة، ومللها، جزء من الخيبات التي ترصدها مروة في ديوانها، بعد أن فقدت هذه الروتينية طبيعيتها، وأصبحت بلاستيكية تماماً: ‘يجمعون الورد البلاستيكي، ويصنعون حديقة، تستطيع أن تسمع ضحكاتهم،عن بُعد.
من هزائم مروة في ديوانها، أن يضحى الموت بلا معنى، ‘كنتَ مشغولًا بتصور أسباب جميلة للموت؛ مثلًا ألا يحتمل قلبك جمال وردة صغيرة تنمو، فتموت، مثلًا أن يحملك نورس على جناحه للسماء، فيهالك هذا النقاء وتموت’، رغم أنها تراه في قصيدة أخرى ‘الموت يشبه العالم
مفاجئ و قبيح’، لذا فهي لا تخفي عداءها للموت في نصوص أخرى كثيرة، لكنها لا تذكر ذلك مباشرة، بل تذكر مبرراته ‘أطفال السرطان أجمل من كائنات السرطان المنتفخة’, الموت لا يصبح انفصال الجسد عن الروح فقط، بل هناك موتى على قيد الحياة أيضاً، ‘متُّ قبلها بعامين
وقلت لها مرارًا: لا داعي لكل هذا المرض’، أو حين تصبح الحياة والموت صنوان ‘كما أنني ميتة علي أية حال.
حالة الهزيمة والخيبات الموجودة بطول الديوان، كرستها وزادت منها حالة الغربة، الغربة عن الوطن، وعن العالم، وهو ما نجده في واحدة من أجمل قصائد الديوان ‘بين بين،
ثم جاءت اللكنة كضربة قاضية،
لكنتي تُكرِّس كوني لا شيء بالأساس،
لكنتي قطعًا بينَ بينَ.
وها أنا أود حقًّا لو أعرفكم بنفسي،
لكنني أرفع قبعة المهرّج،
أدور بميلٍ غير مقصود وأضحك،
أكتب اسمي في الهواء بحِرفية، أظنها بالغة،
لكنكم جميعا تؤكدون أنها بينَ بينَ.
فهذه الحالة الـ ‘بين بين’ في كل الأشياء، تكرس غربة لا متناهية، فيضحي كل شيء بين بين، الحزن والحب والألم، والدموع واللغة والوطن والحياة ذاتها.
تكتب الشاعرة قصيدة الغربة بطريقتها الخاصة، والتي أفضل أن أسميها في حالة مروة بقصيدة ‘الغياب’، فإذا كانت قصيدة ‘بين بين’، تتحدث عن غربة اللغة، تفهي تحدث في قصيدتها ‘ماما’ عن غربة الروح، التي تجعل الآخرين لا يفهمون حس الدعابة، ‘أمي، لا أحد يفهم حسّ دعابتي هنا.الصور الفوتوغرافية التي أحتفظ بها، تزداد شفافية كل يوم. وحدي ألحظ التفاصيل’، في هذه القصيدة يصبح معنى كلمة ‘هنا’، ‘هناك’، ويصبح معنى كلمة ‘لا أحد’، الآخر الذي لم يعد أحداً بالفعل في عالمها.
حالة الغياب، أو الغربة، تدفع مروة لكتابة ما تسميه نصوص اعتراف، لذا تقدم في ديوانها عدداً من الرسائل الشعرية المتخيلة، إحداها من أم إلى أبنائها الصغار، وإلى مارك، وإلى الأم، لكن كل رسائل مروة لا تصل، لا إلى الأصدقاء ولا إلى الأم، ولا إلى الأطفال، ولا إلى فيروز، لذا فهي تسأل عن طابع البريد الذي يوصل الرسالة إلى الله، ولا يمكن فصل هذا، بالطبع عدم وصول الرسائل، عن حالة الخيبة والغربة والهزيمة، التي تطبع قصائد الديوان.
رسائل مروة، تأتي جزءاً من نصوص سردية جميلة تقدمها في سياق ديوانها، إذ تسعى الشاعرة لتقديم نصوصاً إشكالية، منفتحة على كل الاتجاهات الإبداعية، لذا تكشف بعض نصوصها عن حس سردي، ملتحف بالسريالية، كما في نصوصها ‘تجريد’، و’أولجا’ ورسائلها المتعددة الذي تحافظ فيه على المساحة ما بين الشعرية والسرد.
والسريالية هنا لا تخص النصوص السردية فقط، بل تقدمها مروة كما عرفها الشاعر المكسيكي الحائز على جائزة نوبل اوكتافيو باث ‘السريالية ليست مدرسة شعرية إنما حركة تحريرية، طريقة لاكتشاف لغة البراءة، وتجديد أساس الحياة’، ومن هذا التعريف يمكن قراءة معظم نصوص الديوان، التي تطمح للتجريب والتحرر من القوالب التقليدية الثابتة لكتابة القصيدة وتركيب الصورة، والتقاط الفكرة.
تقول مروة: ‘ولو أن لي أن أقص عليكم حادثة صغيرة، سأقول لكم بهدوء وثقة كاملة إنني شاهدت يمامات تخرج من كفيه، وإن وردة صاعدة من لسانه أهداها تلقائيًّا لامرأة تحمل طفلًا معاقًا، وإنني في مشهد آخر رأيت عصافير تأكل من شعره سنابل كثيرة، ولا يجب عليكم إطلاقًا ربط هذا بـ ‘تأكل الطير من رأسه’. هذا الكم المترابط من الصور السريالية، التي تتحول لحقيقة لحظة قراءتها، ناهيك عن براعة السرد، والتناص القرآني، والسخرية من القارئ الذي سيربط النص التراثي بما كتبته’، كل هذا يدفع
يحيل هذا أيضاً إلى اهتمام مروة بالتناص مع التراث، لا سيما التراث الديني، وهو تناص يسعى إلى إعادة قراءة الذاكرة الشفهية والمكتوبة، ففي قصيدة تتحدث عن الطيور التي تأكل من الرأس، ثم تنفي في السطر التالي، ساخرة، ربط هذا بالنص القرآني، ‘تأكل الطير من رأسه’، وفي موضع آخر تتناص مع قصة ابني آدم، هابيل وقابيل، ‘ نقرتُ الأرض، أفضل من أي غراب، واريتُ سوأتَه وزرعتُ فوقها غابة’، وتتناص مع قصة النبي موسى عندما رغب في رؤية الله ‘قصصتُ شعره ونثرته في الاتجاهات الأربعة’، ولا تكتفي مروة بالتناص مع النصوص القديمة والاستفادة من كنزها اللغوي العالق في الأذهان، بل هي تدفع إلى السخرية منها، وإعادة التفكير فيها، وأحياناً تستمد منها شغف القارئ، مثل نصها ‘قسوة’، الذي تفتتحه ببيت شعر شهير، ونص تراثي عن الأم ، وفي نص آخر تتناص مع قصة النبي يوسف ‘سبعٌ عجاف يبدو أنهم لن ينتهوا وبقرات غبيات تأتي على قلبك بدأب’، وقولها في نص آخر ساخرة من ذاكرة جمعية: ‘كيف تفسرون كلمة بوليس، لا أظنها تلتصق بكلمة ‘سرّيّ مثل الأفلام القديمة.
حس السخرية هنا من مسلمات النصوص، ينتقل إلى الحياة بأكملها، فهي تعيد ترتيب الواقع، وتكسر المسلمات، عندما تتحدث عن ‘العاهرات الطيبات، وأطفال الشوارع المتدينين، والنُبُوات المحترقة’، هي تفعل هذا لأنها تكتشف أن العالم مبتذل جداً، ففي نص ‘طفولة’، تسخر من العالم ومن مسلماته في حوار بين طفلة والأم، التي تبدو حاضرة بكثرة في الديوان’ ـ ولماذا يشاهد أبي نشرات الأخبار؟ ـ لأنه لا يعرف قصصًا يحكيها. ـ ماذا تعرض نشرات الأخبار يا أمي؟ ـ حكايات كثيرة لكنها ‘للكبار فقط’. ـ ولماذا لا يشاهدها الأطفال يا أمي؟ ـ لأننا يجب ألا نعلم الأطفال الكذب’. لا تحتاج هنا مروة صفحات كثيرة لكي تتحدث عن الخراب والدمار الذي يلحق بالعالم، وعن كذب الساسة والإعلام العالم، بل هي تلخص كل شيء في كلمات قليلة، وبلغة بسيطة شعرية مبطنة بالسخرية، هذا العالم الذي تصفه في قصيدة أخرى بأنه ‘عجوز قبيحة، لها ثديان متهدلان، يرضع منهما الرعاع، ترش الكبريت على وجه أبنائها، وتغنج للقراصنة والقتلة والفزّاعات.
تواجه مروة هذه الخيبات بكتابة تاريخها الخاص، وإعادة تشكيل هذا العالم كما تريده، بل إعادة تشكيل أساطيره، ليصبح عالماً أكثر احتمالاً، وأكثر إنسانية، رغم أن إعادة التشكيل هذه قد تكون كاشفة وصادمة في بعض الأحيان، مثل قولها: ‘إن ذات الرداء الأبيض شبحٌ، أو ربما تكون ملاك الموت مثلًا، وإن سندريلا كانت في الأصل عرجاء، لهذا سقط منها حذاؤها، ولا صحة لما روَّجوه عن زواجها، بأمير في النهاية، فقط غرغرينا عميقة إثر جرح ملوث انتهت ببتر الساق.
الأكيد هو أن مروة أبوضيف، واحدة من أهم الشاعرات في هذا الجيل، أرى أنها تتماس في شاعريتها، وفي رؤيتها السريالية للعالم، مع واحدة من أهم شاعرات مصر الراحلات، هي جويس منصور، غير أن مروة تكتب تجربتها الخاصة، وعالمها الخاص، ولغتها الخاصة، وهي بديوانها الجديد، تؤسس لتجربة شعرية هامة، تبدو ملامحها واضحة من الآن.

"على حافتين معاً".. ديوان ضد رتابة الحياة.. والقصيدة




في حوار مع الشاعر والروائية الأمريكية كيم أدونيزيو تقول إنه لا يمكن للشعر أن يكون قاضياً ولا أن يطلق أحكاماً نهائية، وتضيف " حتى عندما تحاول أنت تفسيره، لا يمكن لك أن تخلص إلى نتيجة محددة. الشعر يقف على مسافة من الأنا، والأشياء، إنه أكثر نقاوة، لكنه لا يمكن أن يظل مثقلا بالامور الإيديولوجية والفلسفية والمبهمة. عليه أن يكون قريبا من الجميع، وغير ضعيف في الوقت ذاته".
تبدو هذه هي الأرضية التي تتحرك من خلالها الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها "على حافتين معاً"، الصادر أخيراً عن دار الدار بالقاهرة، وفي قصائد أخرى متناثرة منشورة لها، إذ تنطلق في قصائدها من محاولة إعادة تعريف القصيدة المتعارف عليها، وطريقة كتابتها، بالنسبة لها على الأقل، والبحث عن معنى "الشعر" في التفاصيل الصغيرة، دون أن تصدر أحكاماً قيمية، وساخرة في الوقت ذاته من كل القضايا الكبرى.
تبدو سارة عابدين في ديوانها مهتمة بالتجريب في كتابة القصيدة، بالحديث عن القصيدة ذاتها، لذا نجد الشعر حاضراً في الديوان مرة بالحديث عنه ومرة بالبحث عنه في تفاصيل الأشياء.
تتحول القصيدة من حالة الكتابة إلى تفصيلة يومية معاشة، وتتحول التفاصيل المعاشة إلى قصائد، لذا فالصلاة تكون بالشعر "أتقرب لله بالشعر/ أذبحُ قصائدي قرابين على عتباته/ علّه يرضى ويأخذني في كنفه/ ليناقش معي/ القضايا الشعرية الكبرى"، بل هي تعتبر القصيدة نظاماً لتنسيق الفوضى "ربما تساعدني على تنظيم فوضاي الداخلية، وتفسير أحلامي السريالية جدًا".
الكتابة نفسها حاضرها بكثافة، في محاولة لتبرير فعل الكتابة نفسه، أو التأكد من حقيقيته، أو كأنها تكتب لنفسها نصوصاً لن يقرأها أحد، فتبدو أشبه بالشعر الاعترافي "عندما أكتب، أستلهمُ من كل قبيح، القبح يعري النفس البشرية/ تلك المادة الخام للكتابة الشعرية المتفردة/ ما من شاعرِ وصف مشاعره/ عندما تنغمس قدمه في روث البقر/ أويهاجمه جيش من الخنافس السوداء المكتظة".
القصيدة في ظن سارة إذن، ليست القصيدة التقليدية، ذات القوافي والتفعيلات، وقواعد الصرف والنحو "الشعرَ مشاعرٌ مندفعة لا تهتم كثيراً لعلوم النحو والصرف"، القصيدة هي التي تصنعها بنفسها، وتشعر بتفاصيلها بين سطورها،بل هي تنحاز إلى قصيدتها، إلى اختيارها الجمالي، لذا تقول إنها "عنصرية ضد الأدب صاحب الرسالة وضد الشعر المتماثل بثبات، وضد قصائد ايمان بكري وهشام الجخ والكتابة النسوية وضد نوال السعداوي، أحب أن أكتب الأسماء فأنا لا أفهم من دون امثلة، ولا أجيد استخدام الاختصارات"، لذا فهي لا تسعى إلى صنع صور شعرية، غارقة في التشبيهات، منهكة من كثرة المضاف والمضاف إليه، هل لا تبدو مهتمة بذلك على الإطلاق، القصيدة بأكملها تتحول إلى صورة شعرية "مشبعة" للقارئ فور وصوله إلى آخر كلمة، تاركة إياه في حالة من الاندهاش الذي لا تصنعه صورة اعتيادية، بل طرح فلسفي، ومحاولة الإجابة على سؤال لم تطرحه الشاعرة، لكنه يغلف كل القصائد.
يمكن القول إن سارة عابدين تسعى إلى قصيدة شعبوية، ليس بالمعنى الشعبي، ولكن قصيدة تصل إلى الناس، وتتماس مع تفاصيلهم وحياتهم ونزواتهم واهتماماتهم، قصيدة يمكن أن يقولها أي عابر سبيل في الشارع " فـ"الكتابةالحقيقية لا تحتمل كثرة التأويلات والتشبيهات، المريعة في كل جملة، يكفي ان أصف ما يشعر به الآخرون، دون قدرة علي التعبير عنه/ عندئذ يبحثون عن كتاباتي لتلمس مشاعرهم الخفية/ يتساءلون بين أنفسهم : كيف لم نكتب ما تكتبه/ إنه تافه جدًا !! ، إنها نفس مشاعرنا/ وربما تكون كتاباتي محفز جيد للمحاولة". هذا القارئ العادي الذي تعرف دوافعه للقراءة، بل وتسخر منها "لابدَّ من بعض الأسرار حتي يجد الآخرون سبباً لقراءَتها، بنفس شغف قراءتهم للروايات الإيروتيكية"، هنا تطرح سارة إشكالية القارئ والشاعر، وأسئلة الشعر وماهيته، وفي واحدة من قصائد الديوان الرائعة تتحدث سارة عن أسباب كتابة الناس للقصائد، في سخرية رائقة "الشعرَ تافه، لا يحتاج مقدمات، أو حبكات درامية، وشخصيات رئيسية"، غير أن هذه السخرية المبطنة، تكشف عن اعتقادها الحقيقي بصعوبة الشعر، حتى مع الشروط التي ذكرتها، وأهمية الكتابة رغم ذلك "أكتب لأضفي قيمة على حياتي، وأنسي أن وجودي على الحياة، مجرد وجود طارئ ومتخيل".
السخرية الوثابة هي إحدى أدوات البناء النصي في قصيدة سارة، فتسخر من كل شيء من الأشياء الكبيرة والصغيرة على حد سواء، بنظرة سوداوية أحادية إلى العالم، تسخر من قصيدتها، ومن القضايا الكبرى " لا أعرف كيف أختارالعناوين/ أحاول استلهام العناوين الكبرى/ لتعطي قيمة لنصوصي التافهة جداً/ لكن ليس بقدر تفاهة/ تلك العناوين الكبرى"، تسخر سارة عابدين من ذاتها، ومن قصيدتها، ومن كتابتها " أكتبُ قصائدَ تافهة/ لا تستحق القراءة/ لا يوجد بها وحدة عضوية/ أو مضمون ووزن وقافية/ لكني أكتبُ ربما أجد بعض الأغبياء/ الذين يثنون على سخافاتي/ لأنهم لا يستطيعون فعل ما هو أكثر".
هذه السخرية تمتد إلى ما يمكن اعتباره مقدسات التراث البشري، فتكتب قصيدة عن تفاهة سيوران " لماذا اقرأ لهذا المدعو سيوران/ أناأكتبُ أفضل منه"، غير ان هذه السخرية القاذعة تبدو مبطنة سخرية سوداء، مبطنة بنظرة قاسية تجاه العالم المرعب الظالم "أملك قلبًا جاحدًا يبكي ألماً/عند انتهاء مغلفات الكابتشينو/ أكثر مما يتألم لمرأى دماء الأطفال".
سارة التي تسخر في ديوانها من القضايا الكبيرة، تبدو قصيدتها شديدة الانشغال بهذه القضايا، بالعدل والمعرفة، والحياة، والموت، والفقر والغنى، والراديكالية والخوف والعجز وترقب الشيخوخة، بالإجابة على الأسئلة الوجودية والفلسفية الكبرى، التي تسخر في قصائدها من إجاباتها المعتادة، حتى لو لم تقل هذا، أو تدعي أنها لا تريد أن تقوله.
صورة القارئ العادي الذي يكتب الشعر، هي الصورة الأبرز التي تسعى سارة إلى تصديرها في ديوانها، فتبدو في قصيدتها كأم تتحرك في منزلها، وتبحث عن القصائد في تفاصيل حياتها حتى تستطيع تمضية الحياة، وتبدو الكتابة هي ملاذها لتغيير هذه الرتابة "أكتب/ لأنني أشعر بالغثيان"، تبحث عنها في البوتاجاز، وفي المطبخ، وفي الستائر، وفي طبق الغسيل، وفي التراب أعلى المنضدة، وفي علب الأدوية، تتحرك سارة في قصيدتها كأنها تتحرك في بيتها "أقلب الأرغفة فوق الشعلة/ أحاول تذكر الحلم المفقود/ حتي أكتبه قصيدة"، تبدو كل تفاصيل المنزل التي تشغل بال أي سيدة عادية تعيش حياتها حاضرة بكثافة "عروق زنجبيل تنمو بسرعة أسفل سجادة السماء/ لتصبح أشجاراً باسقة تخترق الوعاء الذي حفظت فيه/ وتطيح بدولاب حفظ التوابل ليسقط فوق الفرن الكهربائي"، وتتبدى مهارتها في تحويله إلى شعري لافت، مرة بالسخرية من تفاصيل حياة سيدات المنازل الرتيبة، ومرة بالبحث عن شاعرية هذه التفاصيل شديدة الاعتيادية إلى شعري مبهر جدير بالاكتشاف" أمرر سبابتي في تجاويف الزخارف الخشبية للدولاب/ يخرج إصبعي محملاً بغبار كثيف".
يقول الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك: " مُلهِمات الشعر طبّاخات. الشّعر نوع من فنّ الطّبخ. أقسّم قصائدي بين مُقبّلات ويخنات وحلوى"، وهذا ما تفعله سارة عابدين التي تضع يدها على قصيدة مختلفة، قصيدة قادمة من أدق التفاصيل الحياتية، قصيدة تبحث عن الشعري في أحبال الغسيل وترتيب الملابس حَسب خلفياتها الذكورية والأنثوية والملابس المطرزه التافهة ومستحضرات التجميل وطلاءات الأظافر الحمراء وترتيب الملاءات ولعبة الكلمات المتقاطعة وووضع المعجون الأحمرعلى فرشاة الأسنان البرتقالية، وحبيبات الراني التي تعلق في فتحة العلبة الأسطوانية، ومُصفف الشعر المُخنث والمشروبات الغازية القاتلة.
كل الكلمات السابقة التي تبدو كأنها قادمة من سلة غسيل سيدة منزل تافهة غارقة في نمط الحياة الاستهلاكي، ولا علاقة لها بالشعر، تتدفق منها الشعرية في قصائد سارة عابدين، وكأنها تبعث إليها بالحياة، لكن أجمل ما في الأمر أن سارة تفعل هذا عن وعي "عندما أرغب في الكتابة/ أستطيع تحويل كل تافه إلى قصيدة"، وهو ما تقوم بع بالفعل، بل تبدو كمصور بارع يلتقط صورة رائعة في خرائب لا ينظر إليها أحد.
قصيدة سارة هي كتابة ضد العادية، عادية الحياة ومللها، عادية ورتابة التفاصيل، في مديح سيدات المنازل المنغمسات في العادية، والأمهات المنغمسات في تحضير الإفطار وغسل الملابس، كتابة عن الغثيان، ودم الحيض، والحمل، وملابس الحمل: "دائماً ما تؤرقني هذه الفكرة في شهور الحمل الأولى، يظن المارون من حولي أني امرأه ذات بطن بارز ،ولا أحد يهتم بالقيام لي في عربات المترو المزدحمة، أحاول إتقان الدور وأضع يدي خلف ظهري دون فائدة "
في قصيدة لتشارلز بوكوفسكي عنوانها "تريد أن تصبح كاتباً" يقول: "إذا لم تخرج منفجرةً منك، برغم كل شيء فلا تفعلها/ إذا لم تخرج منك دون سؤال/ من قلبك ومن عقلك ومن فمك ومن أحشائك/ فلا تفعلها، إذا كان عليك أن تجلس لساعات/ محدقاً في شاشة الكمبيوتر، أو منحنياً فوق الآلة الكاتبة،/ باحثاً عن الكلمات/ فلا تفعلها"، ويبدو أن سارة عابدين وضعن وصابا بوكوفسكي في ذهنها قبل أن تكتب، فكتبت قصيدة الخاصة، المتفجرة من الذات، التلقائية إلى أقصى حد، الكاشفة، والتي تسعى لكشف العالم، ومواجهة العالم بعريه، لذا فهي تخلع جلد قصيدة، حتى تبدو كهيكل عظمي، لترى من يجرؤ أن يراقص مسخاً، بل تبدوالقصيدة أحياناً مكتوبة بشكل علاجي، كما كانت تفعل الشاعرة البارزة،آن ساكستون، عندما تكتب عن ذاتها، والذي يكون اعترافاً غاضباً لكن له مفعول المهدئ ، سارة لا تكتفي بكشف ذاتها، وتفاصيل العالم المملة، والبحث عن علاج لذاتها بالكتابة، بل تكشف الغطاء عن العالم ليبدو مسخاً أكثر، تصيد المشاعر الصغيرة الشاردة، وتشحن قصائدها بالشجن الذي يستمر مع كل قصيدة، تعيد تشكيل الأفكار التقليدية وتصنع منها نصاَ بديعاً مثل قصيدتها التي تقول فيها "نخزن ملابسنا في الدواليب وأشياءنا في الأدراج ونقول سراً لأنفسنا، سنحتاجها فيما بعد ربما نخسر وزننا من جديد فتناسبنا ملابسنا مجدداً ،ربما يكبر ابنائنا ليرتدون أحذيتنا التي لم تعد تناسب أقدامنا أو نرزق بمولود جديد تناسبه البطانيات الصغيرة وملابس أطفالنا القديمة ..لكننا لن نبقي هنا غدا، ولن يذكرنا أحد سوي ذلك الغريب الذي يرتدي أحد معاطفنا في برد الشتاء".
رغم أن "على حافتين معاً" هو أول دواوين سارة عابدين، إلا أنه يأتي وكأنه قد سبقته تجربة شعرية كبيرة، لا يبدو مثل التجارب الأولى إطلاقاً، بل كأن الشاعرة هضمت تجارب كثيرة من قبل، ثم قدمت تجربتها الخاصة والمميزة واللافتة، والتي ستلفت الأنظار اكثر وأكثر في كل ديوان جديد. سارة عابدين صوت مميز. فاستمعوا له. وانتظروه.

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...