الأحد، 26 يوليو 2015

الاحتماء بالقصيدة من الاغتراب.. الشاعرية المغايرة في ديوان "موسيقي وحيد"


تتقاطع قصائد الاغتراب في التراث الشعري العربي، مع قصائد المنفى خارج حدود الوطن، لكن الشاعر بهاء الدين رمضان، في ديوانه "موسيقي وحيد"، والصادر أخيرا عن "مركز المحروسة"، والذي يقدم فيه حالة من الاغتراب، ينقل منفاه إلى داخل الوطن، فيستعين على ذلك بموسيقى الشاعر، ووحدته، ومحولا القصيدة إلى درع يحتمي به من ذلك.
تبدو الموسيقى هنا هي سلوى الشعر في مواجهة وحدته، وترتبط به ارتباطا شرطيا، رغم حرص الشاعر أن يتخلص من أثر الموسيقى في نصوصه، فقدم معظمها متخلصا من قيود التفعيلة ومحلقا في براح النص، لكنه يقتنص في كل الأحوال روح الموسيقى الداخلية للنصوص التي جاء معظمها قصيرا مكثفا، محملا بطاقة شعرية كبيرة.
يهدي  الشاعر ديوانه إلى الحلم الذي عرف من أجله كثيرا، لكن كلما قبض عليه بيده تفلت، لذا فهو يبدو طوال الديوان مطاردا لحلم يعرف تفاصيله، فيقتنصه تارة في الجزء الثاني من الديوان "القصائد الأطلسية"، أو في رؤيته للوطن التي يقدمها في أكثر من نص داخل الديوان، لكنه يبقى في ظل كل هذا في معزل عن العالم، محتفظا بحلمه مثل "ولد من طين الأرض ونصل الشمس يفض رمال بكارتها بأعشاب خضر، ولد جبلي ممزوج برائحة القمح ولون الصحراء وأشجار الزيتون"، هذا الولد الذي يصفه في آخر القصيدة بأنه مجنون، يبدو هو حامل الحلم الذي ينتقل بأحلامه وانكساراته من مدينة لأخرى، من قصيدة لأخرى، حاملا فجيعته.
هذا الولد الذي يكتب عنه بهاء الدين رمضان ديوانه، يصفه في قصيدة أخرى بأنه "الولد الهمجي الذي أعلن/ أنه لن يدخل  في حركات التغيير/ ولا في الحزب الحاكم"، ومع ذلك فهو لا يخفي  "رغبته في الصراخ تحت سماء الغيوم/ ورعشة الشتاء".
انكسارات الولد ووحدته، تنتقل منه إلى كل الأشياء حوله "الولد الهمجي الذي سيقطع كل الأشجار/ ليبقى على جميزة وحيدة / وشارع وحيد/ وشرفة قديمة/ ويشعل أطفاله الصغار/ يمم وجه شطر النيل للبكاء"، وهكذا تنتهي القصيدة ليترك الشارع كل تفاصيل عالمه وحيدة تماما مثل "الولد"ومثل موسيقاه.
لكن الشاعر الذي كان يعيش وسط عالم بدأ يتخلى عن هذا العالم، أو يتخلى العالم عنه مع التقدم في العمر، حين يصبح منبوذا، فيتحول لقاطع طريق  "كقاطع طريق وحيد حزين/ أربعون عاما أشعل الحرائق/ أدجج السلاح، وأحكم اللثام"، لكنه لا يبدو كقاطع طريق مثالي بل هو "أربعون عاما أخطط لهزيمة/ أختبئ في الكهوف والجبال"، فهو يهرب إلى وحدته من الطريق الذي يحاول أن يقطعه، بل إن ضحيته تتميز أيضا بأنها وحيدة مثله "أربعون عاما/ أحاصر ضحيتي الوحيدة"، ويقدم في النهاية مرثية لذاته تبدو كعدودات الصعيد، أو كمرثية مكتوبة على صخور الجبال تخلد ذكرى ذلك الموسيقي الوحيد "النساء اللاتي/ يترقبن مجيئي/ وأنا لم أولد/ من رحم كالأرحام/ سيعلمن تماما/ أني تمثال من صخر/ فيجهشن كثيرا بجواري/ ويغادرن سريري في آخر الليل/ وقرب الفجر".
اختار بهاء الدين رمضان عنوانا لديوانه، من خارج عناوين القصائد،  وهو ما يحيل مباشرة إلى أن عتبة النص تبدأ من هذا العنوان الجامع لما يحويه الديوان، والذي يحيل أيضا إلى صورة عازف يجلس وحيدا، يعتمد على الغناء في مصارعة وحدته وغربته.
الوحدة والغربة هي السمة الأولى للديوان، المكتوب على مدى زمني طويل نسبيا، فجزؤه الأول "ناي في صحراء الوطن" مكتوب في الفترة من 2001 إلى 2006، وجزؤه الثاني القصائد الأطلسية مكتوب في الفترة من (2006 إلى 2008)  وجزؤه الثالث فضاء لكونشيرتو الضجيج مكتوب عام 2000، وهو ما يعني أننا أمام ديوان متعدد المستويات الزمنية، لكنه في كل ذلك يحافظ على تيمة الوحدة والاغتراب.
وإذا كان شعر الاغتراب قد تزامن مع هجرات الشعراء، أو نفيهم في تاريخنا المعاصر إلى خارج البلاد، إلا أن الاغتراب عند رمضان يبدو داخل حدود الوطن وداخل النص ذاته، ويمكن تقسيمة إلى ثلاثة أنواع: اغتراب عن العالم والكون، وهو اغتراب ميتافيزيقي أو اغتراب أساسي ملازم لوعيه بوجوده وتناهيه، واغتراب عن الجماعة التي ينتمي إليها بما لها من ماض، وتقاليد يرفضها، ثم الاغتراب عن الذات، وهو الناجم عن الاختلاط بالآخرين، وربما يتضح ذلك في قصائد الجزء الثاني من الديوان "القصائد الأطلسية"، والتي تحمل القصائد الأطلسية طاقة غربة كبيرة، رغم قصر مقاطعها، والتي أحسن الشاعر اختيار جملة الفجيعة في وصفه أولى قصائدها، فالفجيعة تحول الشاعر إلى ميت "الجثة المقبلة من بعيد ، مثلي تماما، غير أني أمشي بلا روح أو إحساس"، وكأن الميت هو الذي يملك الروح والإحساس، لكن الشاعر لا يكتفي بإعلان موته فقط، بل يعلن موت الشعر أيضا "ما الذي يفعله الشعر إذا طعن القلب، ربما مثلي يموت"، أما لحظة الفجيعة تبدو للشاعر مثل سقوط غرناطة مثل قنبلة نووية، مثل أم تأكل أولادها".
تؤدي الفجيعة إلى أن ينكفئ الشاعر على ذاته أكثر، فيصبح أكثر اغترابا ووحدة، كما تتحول الحبيبة من من محبوبة إلى قاتلة "الأطلس المملوء بدمي كنت قد ملأته شعرا طوال عام، الأطلس المملوء بدمي الآن تشرب منه وعلى وجهها كل علامات الابتسام"، لكن الأطلسية كما يطلق عليها في نص آخر "كأودية العشق تهبط في داخلي  كأنسام الصباح تشعل رغبتي في الحياة فأصبو حبيسا بين يديها"، ويستلهم لغة القرآن فيقول  سلام عليك يوم ولدت ، سلام  وعلى الطيلا حين يراك  سلام والارض إذأنت كشيت وعلى الغابات على الوديا سلام" هذا التحول من السلام إلى الموت، يدخل الشاعر في تجربة الغربة والوحدة التي تسيطر على كافة قصائد الديوان.
يكتب الشاعر القصيدة السياسية على طريقته الخاصة، فهو لا يعتمد طريق الصراخ تعبيرا عن غضبه، بل ينتقى التفاصيل الصغيرة ليعبر بها عن حزنه، ولذا نجد أن شخصية الجندي، إحدى  تفاصيل الحرب، تبدو حاضرة وبقوة في قصائد الديوان، ويبدو الشاعر في قصائد كثيرة محاربا مل الحرب، أو دون كيشوت ااذي يحارب طواحين الهواء ويتبدى ذلك في القصيدة الجميلة من أجناد الأرض، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان "لماذا يصيح الأطفال/  في الظهيرة/ كلما رأونني ممتطيا حذائي/ أجر ظلي بين رجلي/ لأحارب الأعداء/ ولماذا تمني إلى صدرها/ تلك المرأة العجوز وتبكي"،
هنا تتحول الأشياء العادية، وتغادر أوصافها العادية لتخلق عالما موازيا من خيال الشاعر، فالجندي قد لا يكون كذلك، بل يكون أحد الأشخاص الذين تراهم حولك ليل نهار، وحذاؤه يتحول إلى جواد يمتطيه، وظله إلى سيف يمتشقه، ويبدو وكأنه الوحيد الذي لا يعرف بفشله في تلك المعركة،  لكن الشاعر يعلم رغم ذلك أنه سيخوض الحرب وحيدا أمام عالمه "المرأة العجوز/ والاطفال/ وخوذتي/ والحذاء القديم/ جميعهم ينتظمون صفا واحدا/ لأعلن بدء المعركة".
لكن الشاعر يقودنا في النهاية لنكتشف أنه ليس إلا جنديا في متحف، لتصدق ذلك، أو تترك لخيالك العنان لترى العالم جميعه متحفا، ونحن مجرد أشياء مركونة فيه، فالذكريات التي تتوالى على لسان الجندي، ذكريات جندي حقيقي في المعركة/ الحياة "أيها الجندي القابع في ركن المتحف/ ليس كما تتمنى في كل صباح/ تجد عصفورا وتمشط شعرك/ ليس كما تتمنى أيها الجندي العتيق/  في كل صباح يرسل لك الوطن قلااداته ونوط شجاعته".
ويبين هذا البيت الأخير مفهوم الوطن لدى الشاعر، والذي يبدو حاضرا في كثير من قصائده، بيتا للغربة، وغربة عن البيت في آن، وهو ما يقودنا إلى مفهوم المنفى والغربة الذي طرحناه في بداية هذا المقال، حيث يمتزج المفهومان، ويصبح منفيا وغريبا في وطنه.
الوطن يبدو في عين الشاعر هكذا: "الوطن المهمل مثلك أصبح مثقلا/ بعربات الباص والمترو/ والفقراء الملعونين أينما وجدوا/ ليس كما تتمنى أيها الجندي/ فاقبع في ركن المتحف بلباسك العسكري/ وارفع يدك اليمنى وانتظر".
الانتظار هو الحل الذي يمنحه الشاعر  للجندي، الذي  يتبين لنا أنه ليس إلا نسخة أخرى من الشاعر الذي مل هذا الوطن المهمل، والمثقل. الوطن المنقسم ما بين "أبو القاسم"، و"القاهرة"، كما يشير في نصوص أخرى. وإذا كان معظم الشعراء قد كتب قصيدة "غربة"، رثا، أو هاجم فيها القاهرة، فإن الشاعر هنا يعقد معها في إحدى قصائد الديوان ما يشبه معاهدة صلح، بعد أن أدرك عدم قدرته على تغييره، وعدم إمكانية تغييرها.
قصيدة الغربة يكتبها بهاء الدين رمضان بشكل مختلف، وضح تماما في قصيدته "في القاهرة" حين يقول "هنا / تتغير كل الأشياء/ الأحلام/ الألوان/ النساء / عقاقير الهلوسة/ العربات/ الأرصفة/ الأدخنة/ لفافات التبغ/ الأحلام الليلية/ أصوات الباعة يتلو ن نشيد الزمن/ العشاق على النيل/ الأقدام المتراصة في مترو الأنفاق، الشعراء
تتغير كل الأشياء/ إلا أنت ستظلين القاهرة".
فحالة التغير لا تطرأ على الغرباء فقط، ولا على المنفيين وحدهم، بل على تفاصيل المدينة الصغيرة التي لا تراها إلا عين الشاعر مثل "أصوات الباعة يتلون نشيد الزمن"، وكأن تلاوتهم لهذا النشيد تصاحبها عملية التغيير ذاتها، والأرصفة، حتى الصورة الكلاسيكية للعشاق على النيل يرصد الشاعر تغيرها وتبدلها، ومن هنا يخلق غربته عن الوطن الذي يتغير، فيما يظل هو واقف مكانه يرقب حالة الاختلاف، في المدينة  التي تشبه كل الأشياء فيها ملامح السفر لذا فإن عقارب الساعة تجري مثل قطار هارب ودخان المقهى يرسم أوطانا أخرى.
الهم السياسي يبدو واضحا جليا في الجزء الثالث من الديوان "فضاء لكونشيرتو الضجيج"، فتبدو قصيدة ضجيج وكأنها مكتوبة للحظة التي تعيشها مصر الآن، رغم أن تاريخ كتابتها يؤكد أنها قد مضى عليها 12عاما " هم قادرون على الضجيج وهجر كل حناجر  الشرفاء/ ماذا علي الآن/ هل أجتاز خيبتهم/ كروح للشهيد/ حكاية للمستباح/ من الأمور/ وأرسم الكورال حنجرة لمخمور يصارع قوة الجاموس والأبقار والأسراب/  وامرأة".
ولا يختلف ما ترصده القصيدة عما يدور في المشهد السياسي المعاصر، لكن رؤية الشاعر التي تسبق الزمن، وتقدم نصا خالدا قادرا على الصمود في وجه المتغيرات، ومعبرا عن اللحظات المعاشة على مر الزمان، وهو ما فعله الشاعر في مجموعة القصائد القصيرة التي حملت اسم "أتهجى رمل الوطن"، كما أنه استطاع في رثائه لبغداد، التي تبدو حاضرة في  أكثر من قصيدة أن يقدم مرثية حقيقية للعاصمة الثقافية القديمة التي امتزجت بحوافر خيول الاحتلال الامريكي  "لبغداد طعم الجراح/ رائحة الحلم/ لون القصائد/ لبغداد أغنية وقذائف/ تفاصيل سوق قديم/ نخيل واغنية للرشيد، احتمالات دجلة/ وحزن الفرات".
كل هذه التفاصيل الصغيرة التي تكون العالم، والتي يسقط الشاعر في إسرها، تبدو هي العالم المهدد بالخراب حين "يمر براحتها الغاصبون/ صهيل/سينصب بين النخيل وعند المساء/ لبغداد تيه جديد".
لا يتوقف الشاعر بهاء الدين رمضان في ديوانه المهم "موسيقي وحيد" كثيرا عند الخلاف حول قصيدة النثر والتفعيلة، بل يبدو صاحب نهج شعري خاص، ينحاز للشعرية، والتجريب وهو ما يمكن ملاحظته إثناء قراءة الديوان المكتوب في قرابة العشر سنوات، من تحول من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر، ومعتمدا في ذلك على امتلاكه لآليات الكتابة المختلفة، واعتماد تقنيات التكرار والقصيدة الدائرية والهايكو، ومع ميله للتجريب في جل قصائده إلا أنه لا يتخلى عن تراثه الأدبي، الشعرى والنثري، وهو مايتضح من خلال اتكائه لغويا على الموروث الديني والفني، وهو ما يكشف عن ثقافة رفيعة.
ديوان "موسيقي وحيد" للشاعر بهاء الدين رمضان، يقدم شاعرية مغايرة للمعتاد، يكشف عن رؤية مختلفة للعالم، وللشعر، وللقصيدة الجديدة، يقدمها شاعر لم يأخذ حقه، رغم أنه شاعر كبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...