الاثنين، 19 ديسمبر 2016

"ألف جناح للعالم".. رحلة أسطورية للبحث عن "النهار"

لا يمكن قراءة الرواية الأخيرة للروائي المصري محمد الفخراني "ألف جناح للعالم"، والصادرة أخيراً عن دار "الكتب خان" بالقاهرة بمعزل عن تجربته الإبداعية السابقة، فهي بمقدار بعدها عن روايته الأولى شديدة الواقعية "فاصل للدهشة"، بمقدار قربها من عوالم ثلاثيته القصصية التالية لها، أو مجموعاته القصصية الثلاث "قصص تلعب من العالم"، و"قبل أن يعرف البحر اسمه"، و"طرق سرية للجموح".
في المجموعات الثلاث، يخترع محمد الفخراني عالماً من البداية، قبل وجود الإنسان، ويعيد تشكيله وفق هواه، محتفظاً ببعض القواعد التي تربط هذا العالم، مثل العلاقات بين المحسوسات والجماد والحيوان، لكن في روايته الجديدة، التي تصلح لأن تكون "فاصلاً حقيقياً للدهشة"، يعيد تحطيم كل هذه الفواصل، بل تحطيم أي شيء تعرفه أو تتخيله عن العالم، ويعيد تشكيله من جديد، حتى أنك يمكن أن تلمس الموسيقى، وتأكل النور، بل يحطم المنظومة التقليدية للتناسل، فنرى بطلة الرواية بلا أب ولا أم، لأنها تنتمي إلى نسل يتكون من حفيدة، وجدة، وهكذا إلى ما لا نهاية.
قد لا يصدق، أو يتوقع قارئ رواية الفخراني الأولى "فاصل للدهشة" التي كانت ترصد عالم المهمشين في مصر بتفاصيل شديدة الواقعية والألم، أن تكون روايته الثانية قفزة لعالم آخر، شديد الرقة والخيال، فإذا كانت روايته الأولى غارقة في عنف الواقع ومأساته، فإن روايته الثانية تسبح في عوالم حلمية، وتطرح أسئلة شديدة البساطة، شديدة التعقيد شديدة الجديدة حول ماهية الكون وطريقة تكوينه، حتى تبدو الإجابات التي تقدمها أسئلة متنكرة، كما يقول في صدر روايته. ويراهن الفخراني بهذا البون الشاسع بين الروايتين على قارئ مختلف، قد يكون مختلفاً عن قارئ روايته الأولى التي لاقت رواجاً كبيراً، ودون أن يعيد نفسه حتى يحافظ على هذا النجاح. بل يمكن القول إن الفخراني يتحدى نفسه بهذه الرواية التي يراهن بها على قوة الفن، وسطوته وقدرته على النجاح، وجذب قراء من شرائح مختلفة، وطرح مشروع لعالم روائي مختلف لم تطأه قدم من قبل.
يتبادر إلى ذهن قارئ رواية "ألف جناح للعالم" سؤال منذ صفحاتها الأولى، مع كم الغرائب، والمفارقة للخيال في كل تفاصيل الرواية، هل هذه رواية أسطورية على غرار "ألف ليلة وليلة"؟، وهل لو قيض لكاتب "ألف ليلة وليلة" أن يكتبها في عصرنا هذا، مع ملاحظة التطور التكنولوجي والمعرفي والحسي، ستكتب بهذه الطريقة؟، فعلى غرار العجائب التي كان يقابلها سندباد، أو عبد الله البري أو عبد الله البحري في رحلاتهم، تقابل بطلة الرواية "سيمويا" عجائب أخرى في رحلتها الاستكشافية، في روايتين متوازيتين، تبحث في إحداهما عن النهار، والأخرى في مهمة لا نعرف كنهها ولا نعرف متى تنتهي، لكن الرحلة في النصين المتوازيين المتداخلين، تتحول إلى رحلة أسطورية، نرى فيها القبطان المذهول، والفتاة التي تخيط قلبها، والأم التي تطعم أطفالها من جسدها، وشجرة العيون، والكنجارو الرسام، وشجرة الخبز، وجبل النور، وبيوت المشاعر، والوحش الحنون، وعوالم الجن، وأرض البسكويت وأرض الملابس الجديدة وأرض الشيكولاته، وبيت الخوف، والمدخل إلى اللا ليل لا نهار، ومقابر الورد، والمدن الطافية، وغيرها من العوالم المبتكرة التي يعيد بها الفخراني تشكيل العالم وتشكيل حواسه أيضاً.
نحن أمام عشرات الحكايات العجائبية الصغيرة، الممتزجة ببعضها والمتضافرة، والتي يمكن قراءة كل منها على حدة كنص مستقل، كما يمكن قراءتها في سياق رحلة سيمويا الغرائبية،  والرحلة هي جوهر هذه الرواية، سواء كانت للبحث عن النهار، أو البحث عن الحب، كما يحدث في النصف الأخير من الرواية مع  سيمويا، أو حتى لاكتشاف الذات،، وحل اللغز، هل سيمويا تقرأ قصتها أم قصة أخرى، وهل سيحبها دوفو أم لا؟ وهل يحدث ما قرأته في كتاب القدر(أوراق الليل) أم لا، وإذا كان بعضه قد حدث فلماذا لم يحدث باقيه؟ وهل الإنسان مجبر أم مخير؟ هل بإمكانه أن يغير مستقبله وقدره، هل الحياة مجرد دائرة لا تنتهي تتكرر أحداثها مع تكرار التسلسل البشري في شجرة الحياة؟ عشرات الأسئلة  المتعلقة بالزمن، وعلاقة الإنسان والكون به، والتي تنساب في خفة تنقل الفراشات وسعي سيمويا وراءها بحثاً عن إجابة أسئلتها الوجودية، والتي تستدعي من القارئ أن يخلع ذاكرته المعرفية ويستسلم لعالم آخر، بأحداث وتركيبات مغايرة لما اعتاد، حتى يستطيع أن يعثر على إجابة.
قد يظن القارئ في الصفحات الأولى للرواية أنه بصدد رواية من الخيال العلمي، خاصة مع أجواء الرواية التي يبدو أنها تدور في المستقبل القريب، لكن الفخرانئ ما يلبث أن يأخذ في أجوائه الأسطورية، في روايتين متوازيتين، غير متماستين، لا تتقاطعان إلا في الصفحات الأخيرة، إحداهما تبحث عن النهار، والأخرى تقرأ عن الليل. من الممكن هنا طرح عشرات التفسيرات، وإعادة تفسير العالم، وإعادة تفسير تصنيف الرواية التي بالرغم من ذلك تمتاز برقة شديدة، فهي تدور في أجواء حلمية، بل تكسر الحاجز بين الحلم والواقع، فيتداخلان، ومع وجود كل التفاصيل التي كان يمكن أن تحولها إلى رواية شديدة الرومانسية، من حب بطلة الرواية للشيكولاته مروراً بالفراشات، والبحر والنجوم، التي تتنقل بين صفحات الرواية، إلا أن الفخراني استطاع أن ينجو بها من هذا الفخ، ليقدم رواية عن أسئلة الحب، (من أحب نجا)، عبر قصة حب، تطرح الأسئلة ولا تقدم الإجابات.
يدرك القارئ أن هذه رواية صعبة، سواء في قراءتها أو كتابتها، ففي قراءتها يفاجأ القارئ في كل صفحة من صفحاتها التي قاربت الخمسمائة، وربما في كل سطر، بتغير جديد في عالمه الاعتيادي، أما صعوبة كتابتها فتجعل القارئ يشفق على المؤلف، لأنه ليس من السهل نسف الذاكرة المعرفية للإنسان وإعادة بناء عالم متكامل ومبهر في كل تفاصيله بهذا الشكل.
في روايته الجديدة يقفز "ألف جناح للعالم"، يقدم محمد الفخراني ألف حكاية مغايرة وألف سؤال متنكر في هيئة إجابة، وألف دعوة للنجاة بالحب، ويقفز قفزة كبيرة في بناء عالمه الروائي الخاص والمتميز، والذي لا يشبه أحداً غيره، ويبدو شغوفاً بأن يقدم عالماً جديداً ورواية متفردة، وقد فعل.
....................

نشر في 24

الأربعاء، 14 ديسمبر 2016

ما بعد اللعب.. قراءة في تجربة مصطفى ذكري السردية

من الممكن أن نقرأ رواية مصطفى ذكري "إسود وردي"، الصادرة أخيراً عن دار "الكرمة" بالقاهرة، كنص مستقل بذاته، ومن الممكن أن نقرأها باعتبارها امتداداً وتطوراً مهماً لتجربة ذكري السردية، كرواية سابعة له، تضع لبنة جديدة في مشروعه السردي المهم والمتفرد، وسنكتشف وقتها أن القراءتين ستختلفان تماماً.
في الحالة الأولى، نحن أقرب إلى نص سينمائي ـ في طريقة كتابته وتقسيم مشاهده ـ قادم من عوالم ديفيد لينش، كما أننا إزاء لغة شديدة الاقتضاب والحيادية، والسخرية في آن، أمام عالم مركب ينفتح في بدايته على نص أقرب للبوليسية ـ وهي التيمة التي سنلاحظ وجودها فيما بعد في عالم ذكري ـ  ثم ندخل بعدها في عوالمه الكابوسية. في الحالة الثانية سنكتشف أننا أمام نص مختلف تماماً، ليس إلا امتداداً لعالم وضع لبناته من قبل، وإن كان هذا النص يختلف قليلاً ـ على الأقل في تناوله لمفهوم السرد واعتماده على حكاية شبه كاملة تُذكّر بتجربته الأولى "ما يعرفه أمين"، وهو ما يمكن رده إلى أن كلا النصين مكتوبين للسينما بالأساس ـ وسنكتشف أن تفاصيل كثيرة من هذا النص وردت من قبل في أعمال ذكري الأخرى، وهي التيمة الموجودة في كل أعماله، كأنه يؤكد بهذا على وحدة عالمه، وأهمية الربط بينها طوال الوقت.
بداية فإن اسم شخصيتي العمل الريسيتين "مريم وخالد"، هما اسمي شخصيتي روايته السابقة "الرسائل"، كما أن الصورة التي تجمعهما صغاراً على البحر نجدها في الروايتين أيضاً، ليس هذا فحسب بل إن مشهداً مثل مشهد "المرأة الشبح، وسائق التاكسي" موجود بكل تفاصيله في نصه الأول "ما يعرفه أمين"، كما أن مشهد الساق الصناعية موجود أيضاً بتفاصيله في "مرآة 202"، بل إن مشهد اصطحاب "جثة الساق" في سيارة، يذكر بمشهد اصطحاب جثة "طبل" في سيارة في فيلمه جنة الشياطين، وفي مرآة 202 يقول أيضاً " ترى نادية وجه شبه بين زوجها وبين سيجارته السابعة، فنصفه وردي، والنصف الآخر مظلم"، وهو ما يمكن إحالته إلى اسم الرواية الأخيرة، كما أن مشهد الساق الصناعية التي تطير وتثقب الباب نجده كما هو في رواية مرآة 202، وأيضاً "جمالات" التي تظهر تنقل الساق من بين يديها إلى تحت إبطيها،  وتتحدث عن خطيبها النجار، الذي يصبح زوجها في "إسود وردي"، وكأن ما مضى من سنوات بين الكتابين، هو عمر حقيقي لـ "جمالات"، التي كانت في الرواية الأولى عاملة في فندق، وفي الأخيرة عاملة في بيت، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً حول مفهوم الزمن الذي يبدو حاضراً بشدة في كل النصوص.
هذه التباديل والتوافيق ـ إن جاز استخدام هذا المصطلح سنجدها موجودة بشكل متبادل في كل أعماله، وربما ساعد في ذلك وحدة المكان، فكل النصوص تدور في حلوان، بالقرب من الحديقة اليابانية التي تبدو جزءاً من مكونات شخصية ذكري، وفي الأماكن الأثيرة التي تتكرر في كل الأعمال، ووحدة الزمان الذي يبدو في معظم الأحيان مموهاً، وإن كان يمكن استنباط أنه نهايات القرن الماضي، ووحدة بطل النص (الذي يعمل كاتباً دوماً)، ووحدة باقي الشخصيات، بمعنى تكرار الشخصيات، والتي تجعل ذكري أقرب لمخرج مسرحي، يعمل مع نفس الفريق ـ الممثلون/ شخصيات أعماله ـ فيغيرون الشخصيات التي يؤدونها في كل رواية، وقد يتبادلون الأدوار بين كل عرض وآخر.
الأمر لا يتوقف عند هذا فقط أيضاً، فلا بد لقارئ ذكري أن يلاحظ الربط بين نهاية كل رواية، وبداية الرواية التالية، وكأنه لعبة بازل تكمل كل قطعة باقي الرسم في القطعة المجاورة، ولا يمكن استبعاد قطعة حتى لا يفسد الشكل الجمالي النهائي للعبة. ففي بداية رواية "هراء متاهة قوطية"، نجد أن ننة وعادل ريتا وبوسي شخصيات أساسية في العمل، وقد جاءوا بتفاصيل أكثر وضوحاً من التي ظهروا بها في الرواية الأولى "ما يعرفه أمين"، كما تنتهي رواية "الخوف يأكل الروح" بـحُلم تبدأ به الرواية التالية "لمسة من عالم غريب".  وفي "الخوف يأكل الروح" يتحدث عن أدب الخطابات الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر ليصبح موضوع روايته "الرسائل"، أما رواية "لمسة من عالم غريب" تنتهي بالحديث عن الصور، وهي الصور التي نجدها في بداية "مرآة 202".
هل نحن هنا بإزاء لعبة بطلها ذكري؟ هل يبدو مثل الساحر الذي يتابع العيون المفتوحة أمامه انبهاراً ووحده الذي يعرف بداية اللعبة ونهايتها؟ وحده الذي يعرف متى سيشهقون إعجاباً، ومتى سيصمتون إجلالاً للحظة المقدسة؟ عندما نتأمل تجربة ذكري السردية يتبين لنا أن ذكري في كل ما كتب كان يلعب، لكنه يلعب لعبته الخاصة، التي يضع قوانينها بنفسه، ثم يكسر هذه القوانين متمسكاً بهامش اللعبة، مراقباً شخصياته تجري أمامه يحركها كما يحرك لاعب عرائس الماريونيت وفق قوانين لعبة توضع وقت اللعبة وليس قبلها.
وعلى الرغم من أن ما مضى كان محاولة لربط عالم ذكري ببعضه البعض، ومحاولة لاستنباط قواعد يبني عليها ذكري عالمه، إلا أن هذه القوانين من السهل التأكد من أنه يكسرها في كل نص بنفس البساطة التي يصنعها بها في نص آخر.
نستطيع أن نقول إذن أن ذكري لاعب جيد، لكنه تجاوز اللعبة إلى ما بعد اللعبة، يقول في روايته الخوف يأكل الروح " أجمل شيء في اللعب أن نذهب به إلى أقصى احتمالاته، أن يكون اللاعبون منعدمي الروح الرياضية، أن يكونوا متصلبين متعصبين في لعبهم. هذا هو اللعب الحقيقي، اللعب الذي يؤدّي إلى الجِدّ. نعم، وما الضيرُ؟".
أهم شروط قراءة نصوص ذكري هو أن تندمج في اللعبة كما يريد هو، لتفاجأ بأنه سيكسر هذه الشروط بأعصاب باردة، نلاحظ هذا في بدايات نصوصه: البداية الدرامية الجدية، المشغولة بحبكة أخاذة، ففي "الخوف يأكل الروح"، نحن أمام أشخاص غرائبيين، رجل يكسر ساق كلبه حتى يعرج مثله، وسيدة مجنونة ومخيفة، حتى إذا وصل النص إلى ذروته الدرامية، اتجه ذكري بالنص إلى طريق آخر. سيتكرر هذا في كل النصوص، مثل تتبع رحلة أمين في "ما يعرفه أمين"، رغم أنه لا أحد يعرف ما الذي يريده أمين من هذه الرحلة،  كما تكرر هذا في "هراء متاهة قوطية" الذي بدأ بحكاية تقليدية قبل أن يسحب القارئ وقواعد لعبته إلى عوالم بورخيس وألف ليلة وليلة، وهو ما يجعلنا نقول إن ذكري ينصب فخاً للقارئ العادي قبل أن يسحبه إلى عوالم مواز، إلى لعبته الخاصة التي يصنع هو كل تفاصيلها.
إحدى القواعد هي الحبكة البوليسية التي يبدو أن ذكري يجيد قواعدها، سواء في مطاردة أمين في الرواية الأولى، أوالمنظمة المجهولة في الرواية الأخيرة، أو الغرفة المظلمة والفأر في "الخوف يأكل الروح"، أو "شنطة من؟" في قصة وردتاج وتمرتاج، وإن كان في كل الأحوال لا تبدو هذه الحبكة إلا بداية لعالم مختلف، مثل لغز "وردتاج وتمرتاج" الذي سحب القارئ به إلى أجواء ألف ليلة وليلة الخاصة به أيضاً.
إحدى قواعد لعبة ذكري، هو السخرية من التقنيات السردية المعتادة، وإعادة تشكيلها واستعمالها مجدداً بطريقته الخاصة، فذكري الذي لا يعتمد تقنية سردية واحدة معتادة في نصوصه، يعيد في "هراء متاهة قوطية"، تفكيك تقنية الكتابة واللغة في ألف ليلة وليلة، بشكل ساخر، ليعيد كتابتها مجدداً، وفي "الرسائل"، يستخدم إحدى الطرق التقليدية لكتابة الخطابات، ليقدم شكلاً جديداً ومختلفاً لها، كما أن "الأدب السينمائي"، يبدو حاضراً في روايتيه الأولى والأخيرة، والذي يجعله يقدم مشهد وفاة كريمة بشكل حيادي، كأنه مجرد أسطر باردة في سيناريو، لكن تجعل القارئ يتوقف أمامها حين تقدم في كتاب.
إحدى قواعد لعبة أو ألعاب ذكري أنه يسعى إلى إيهام قارئه بأنه بطل كل نصوصه، رغم لعبة الأقنعة والمرايا التي يجيدها، فهو في كل النصوص يعيش وحده، سواء كان اسمه أمين أو خالد أو مجدي أو مصطفى، والذي هو في كافة الأحوال كاتب، يغير قناعه من نص إلى آخر، ففي "الخوف يأكل الروح"، هو كاتب قصص عاطفية من الدرجة الثانية كما يصف نفسه، لكن الملفت فعلاً، هو اشتغاله على تفاصيل شخصية زيادة في الإيهام، مثل ظهور شخصية "ذكري الأب" في نصين، يكرر نفس الجملة "هيه كده، يا، أيوه" في "مرآة 202"، وفي "هراء متاهة قوطية".
يقودنا الحديث عن "مرآة 202" إلى القول بان هذه الرواية تحديداً تبدو هي المركز الأساسي للعبة ذكري، وأنها المرآة التي تعكس النصوص التي قبلها والتي بعدها بحسب النظرية التي طرحها ذكري في تلك الرواية، واستخدمها أيضاً في ذات الرواية "عدد صفحات الكتاب 202 صفحة، 100 صفحة قبل صفحة المنتصف، و100 صفحة بعد صفحة المنتصف، وصفحة المنتصف تحمل رقمَي 101، و102. الـ 100 صفحة الأولى بمثابة مقدّمة لوجه صفحة المنتصف 101، والـ 100 صفحة الثانية بمثابة تعقيب لظهر صفحة المنتصف 102. لا نستطيع بقراءة المقدّمة والتعقيب، معرفة مضمون صفحة المنتصف متعذّرة الفهم. ومع ذلك فـ 100 صفحة الأولى مكرّسة لتفسير وجه صفحة المنتصف 101، والـ 100 صفحة الثانية مكرّسة للتعقيب على ظهر صفحة المنتصف 102. لا شيء يجمع بين المقدّمة والتعقيب. كأنّ الـ 100 صفحة الأولى مقدّمة لكتاب، والـ 100 صفحة الثانية تعقيب على كتاب آخر"، تبدو اللعبة ممتعة، وذكري يحب مثل هذه الألعاب، لذا يمكن القول إن هناك لعبة واحدة تجمع كل المنجز السردي له، ولعبة لكل  نص بشكل منفرد.
وبهذه الطريقة يمكن أن نفهم أسباب تكرار الشخصيات أو الأحداث التي تبدو انعكاساً لذواتها في مرآة الكاتب، إذ اعتمد لعبة المرايا في كل أعماله السردية، فنحن نرى الشخوص يتحركون من نص إلى آخر، ربما يغيرون أسماءهم أو يبدلونها، أو يقايضونها مقابل مشهد جديد، كما نرى المشاهد وهي تنتقل من نص إلى آخر، كعجينة من الصلصال، يعيد ذكري تشكيلها في كل نص جديد، وإن كان يبقى بعض ملامحها، التي تعد بمثابة الحمض النووي الذي يثبت انتسابها لنصوص سابقة، لذا تبدو الأسماء في كل هذه النصوص غير مهمة، مجرد إجراء شكلي ليس أكثر، فالشخصيات هي الأساس، والدراما في نصوص ذكري هي دراما شخصيات، وليس دراما أحداث، لذا فنحن نهرول خلف شخصية أمين، وليس خلف حبكة درامية أو بداية قصة تبدو كطعم ليس أكثر. لهذا السبب تبدو تفاصيل الشخصيات مهمة، فيعيد تكرارها، مثل قصة "أنا" في مجموعته القصصية الأولى "تدريبات على الجملة الاعتراضية"، مثل وصف الشقة ورف الكتب في الروايتين الأولى والأخيرة، أو في تفصيلة بسيطة مثل "حز التربيعة الذي يأكل عادة شيئًا من قوس الحاجبين المرهفين، وطرف الأذنين المحتقنتين، وأصبحت الأم ترتديه في البيت وفي المشاوير القريبة عندما تذهب للسوق، أو إلى جارة في مربعها السكنى. كانت الضربة الحاسمة له، عندما شقّت طوقه عن جسدها أثناء مشاجرة مع والده. أخذت منه قطعتين لأواني المطبخ، وأخرى لدورتها الشهرية، وواحدة مربعة لصداع رأسها"، وهي التفصيلة التي تتكرر بالحرف في روايتين مما يؤكد القصدية في ذكرها، ويؤكد الربط المقصود بين عوالم ذكري في نصوصه المختلفة.
بدايات نصوص ذكري لا تنبئ بنهاياته أبداً، فكل البدايات تشي بحكاية وحبكة، لكن ما يلبث ذكري أن يترك ذلك ليبدأ اللعب، ليعيد تشكيل النص السردي كما يشاء، ليسخر من تقليديته لدى البعض. ففي كل نص نحن أمام  دائرة غير مكتملة، ثم نكتشف أنها تكتمل من الطرفين، ثم نكتشف أن هناك مجموعة من الدوائر المتلازمة، ثم نفاجأ بنهاية غير متوقعة على الإطلاق، كأن النهاية غير مهمة، كأن وجود اللغز أهم من حله، لأنه يستدعي وجود وإعمال العقل دون اهتمام بالنتائج وهذا يبدو كافياً، فنهاية "إسود وردي" المفاجئة تبدو وكأنها تسخر من البناء السردي المحكم الذي بدأ به، وأخذ يحطم فيه تباعاً طوال النص، ومن الحبكة البوليسية التي سخر منها على مدار النص بتفكيكها وبإظهار هشاشة المؤسسة المخيفة، وبهذا يمكن قراءة نهايات نصوص ذكري في ضوء تدريب بوذا الرياضيّ التأمليّ المنسوب للبوذية والمسمّي بالنفي الرباعيّ الذي أشار إليه في روايته "لمسة من عالم غريب"، حيث كان بوذا ينصح به لتلاميذه عندما تُصاب عقولهم بحيرة ميتافيزيقية.
1ـ بوذا يكون بعد الموت.
2ـ بوذا لا يكون بعد الموت.
3ـ بوذا يكون ولا يكون بعد الموت.
4ـ بوذا لا هو يكون ولا هو لا يكون بعد الموت. حيث يستطيع كلّ قارئ أن يأخذ أحد أضلاع النفي الرباعيّ، في محاولة لولوج النص أو يأخذ ضلعين، أو ثلاثة، أو الأربعة معًا. يتوقّف هذا على اتساع عقل القارئ لاستيعاب تناقض النفي الرباعيّ دون عراك.
إحدى قواعد اللعبة عند ذكري هي الزمن، الذي أشرنا إليه من قبل في "جمالات" التي كانت مخطوبة في نص، ثم تزوجت في نص آخر من نفس النجار، أو نجار آخر، أو في الشاب ذو القدم الصناعية الذي يصبح عجوزاً في الرواية الأولى، أو في حكاية مجدي والأباجورات في رواية "لمسة من عالم غريب" والتي تبدو درساً في التعامل مع الزمن وتكشف ولع ذكري بهذه اللعبة.
من ناحية أخرى تبدو نصوص ذكري وكأنها تدور على هامش الزمن، أو كما قال بيسوا "أنا أوجد على هامش ما أنتمي إليه"، لذا يبدو الزمن أحياناً محاولة لضبط التوازن مثل شخص يحاول تعديل مشيته بضبط ارتفاع كتف عن الآخر، يقول ذكري في مرآة 202 "عندما يتدخّل الزمن، يقف الواقع والحلم على قدم المساواة، ويمحو الزمن دون تمييز صفات الواقع والحُلم، يمحو المنطقية والصلابة، كما يمحو الكثافة والتشويش، ويبقى البرهان على وجود الواقع والحلم عالقًا بالذاكرة والنسيان".
مصطفى ذكري كاتب كبير، وقدم للكتابة العربية إنجازاً ضخماً، ظهرت ملامحه في عشرات الروايات التي جاءت بعده وحاولت أن تسير على خطاه أو تقلده دون أن تقول ذلك، والكتابة عنه تشبه الخوض في حقل ألغام، يشبه الدخول إلى"متاهة"، هذه المتاهة هي عقل ذكري. في هراء متاهة قوطية يقول ذكري: "ستقول أيها القارئ إنني كاتب مراوغ وإن لي قدم وتيه وزيغ، أقول لك نعم". حسناً، يمكننا أن نقول بعد هذه الإطلالة السريعة على عالم مصطفى ذكري أن هذا هو ذكري. عندما نشرع في قراءته نجد أنفسنا أمام عالم متشابك المعالم، كبناء ضخم معقد، تعتمد كل لبنة فيه على اللبنة المجاورة،  كأن لعبة بازل، كل قطعة تشكل لوحة جمالية، لكنها جميعاً تشكل اللوحة الحقيقية، ويبدو ذكري في كل هذا، كأنه يعرف ـ قبل أن يبدأ في نشر أي كتاب له ـ حدود عالمه، من أول حرف يكتبه حتى آخر حرف سيكتبه ـ لذا تأتي النصوص أشبه بلغز، يمكن فك أسواره بمفاتيح في نصوصه الأخرى.
هل يفعل ذكري ذلك لأنه لا يخاف القارئ؟ لأنه لا يحاول إرضاءه؟ في روايته الأخيرة :"إسود وردي" الكاتب بأن لديه ثماني قراء، يعرف نصفهم معرفة شخصية،  ربما  يكون ذكري بذلك يسخر من فكرة الكاتب رغم أنه يعرف أنه كاتب كبير، لكنه مع ذلك يمكن أن نقول أن يتصرف باعتباره بلا قراء، لذا فهو طوال الوقت يلعب دون خوف من رقيب أو من رضا جمهور عبر اللغة الطازجة الصارمة والحوار الحي وتقنيات السرد المختلفة، كتقنّي في غرفة لا تطل على شيء يعيد تركيب الأشياء في محاولة لاكتشاف شيء جديد، كعالم رياضيات يقوم بـ"تربيع الدائرة"، وهو تعبير خاص بذكري بالمناسبة، لا يعرف إلى أين سيصل، لكنه يعرف أنه سيصل إلى أبعد مما وصل إليه من سبقوه، إلى ما بعد الكتابة، وما بعد اللعب.
......................
*نشر في جريدة القاهرة



الجمعة، 29 أبريل 2016

سارة عابدين في "أبتلع الوقت".. جسر شعري بين الواقع والمتخيل


ما هو الشعر؟ يقول الشاعر التشيلي نيكانور بارّا إن "كل شيء شعر ما عدا الشعر"، هذا هو التعريف الأصعب والأكثر شاعرية وتعبيراً عن الشعر، وهذا هو ما تفعله وتقدمه أيضاً الشاعرة المصرية سارة عابدين، في ديوانها الثاني "أبتلع الوقت" الصادر أخيراً عن دار روافد بالقاهرة.
اختارت سارة في ديوانها التعريف الأصعب، والطريق غير الممهد وغير المعتاد، اختارت أن تحول كل ما هو ليس شعراً، وكل ما لم نتعود على شاعريته إلى نصوص تفيض بالشاعرية الأخاذة. تقدم سارة في "أبتلع الوقت" ديواناً غير اعتيادي، لا يجد فيه القارئ الشعر الذي اعتاد قراءته من قبل، لا تقدم الصور الشعرية والبناء التقليدي للقصيدة، لا تقدم المواضيع المعتادة والقوالب الجامدة للقصيدة، لا تقدم في الديوان سوى ذاتها، سارة عابدين، التي تعرف نفسها، وديوانها في القصيدة الأولى منه قائلة: "أنا سارة عابدين، أنا برج القوس، أؤمن بالتجريب، لا أحب الكتابة كالمتواليات الهندسية، أكتب الشعر كما أكتب قائمة المشتريات المطلوبة من السوق الكبير، وكما أكتب وصفات الطبخ في القنوات المتخصصة في الطعام". لا يبدو هذا شعراً اعتيادياً، لأن الشاعرة هنا قررت الكتابة بشكل غير اعتيادي، قررت أن تحول حياتها التقليدية التي تتوزع ما بين المطبخ والنافذة مقعدها الأحمر المفضل إلى قصائد شعرية شديدة العذوبة.
نحن في الديوان نرى سارة عابدين بالفعل، فتاة برج القوس، التي تحول تفاصيل حياتها إلى قصائد، وبسبب المشهدية العالية في معظم الديوان، والتي استفادت فيها من تجربتها ورؤيتها كفنانة تشكيلية، نستطيع أن نتخيل حارس البناية ـ التي تسكنها ـ ذا العين الواحدة، وزوجته، وأطفاله المتسخين دائماً، نستطيع أن نراها وهي تتحرك في منزلها، وهي تقف في المبطخ أو تغسل الأطباق أو تذاكر لطفلتها وتشرح لها الفرق بين الحيوانات اللاحمة والعاشبة، من الممكن أن نعد معها فتحات سلة الغسيل، ونتعرف على محتويات الرف الأوسط من الدولاب، ونراها وهي تطعم طفلتها الصغرى الأرز، ونرى قصة الفرنش كاريه، والشاشة الكبيرة التي تعرض البرنامج القديم، نعرف ما الذي تخبئه في ثلاجتها، وتقع أعيننا على باب الحمام المتآكل قليلاً من أسفل، نراها في القصائد وهي تتحدث عن علاقتها بملابسها أو جيرانها أو الطبيب أو الصديقة اللحوحة، ثم تطل بعد ذلك من نافذتها على العالم.
وإذا كانت كل هذه التفاصيل تفاصيل اعتيادية، فإن غير الاعتيادي هو تحويل هذا إلى شعر، لكن سارة تتجاوز هذا إلى تحويل كل ما مضى إلى جزء من عالم خيالي، تلجأ إليه كحائط صد في مواجهة هذه الاعتيادية، وهذا التنميط لليومي المعتاد، لذا تصنع عالماً موازياً، تقفز فيه من المشهدية الطبيعية لمشاهد تصنعها على عينها، بكل تفصيلاتها، يخطف الخيال فيه القارئ، ويتركه مسلوب اللب.
لذا يجد القارئ للديوان وجهين لسارة، وجه المرأة المهمومة ببيتها، ووجه الشاعرة التي تهرب من كل هذا، وتسكن القصيدة مساء، كما تقول في عنوان أحد نصوصها، وتحول كل هذا إلى شعر، وهكذا يمضي الوقت، الذي يبتلع وجهاً منها، فتبتلعه بوجهها الآخر وتصنع زمنها الخاص، وعالمها شديد الالتصاق بها، لذا نجد أن حوض المطبخ يتمدد ليتسع للكوب الكبير، نجدها تتحدث مع الأطباق والملاعق وتتمنى لهم يوماً جيداً، ويتحول جامع الروبابيكيا إلى جامع بقع، وتشفط الأمطار بالمكنسة التي كونتها من حروف متناثرة "مكنسة"، ولأن هذا عالمها فهي تتحكم فيه كما تريد "لن تكون هناك "أ م ط ا ر" طالما أنها لا تريد ذلك.
هنا نجد "بيتاً" آخر مواز للبيت الواقعي: "الحساء ينضج على نار هادئة في مطبخ القصيدة، مجرد ح س اء"، الحساء هنا كما نرى مجرد حروف متقطعة.، وهكذا يتحول كل فعل عادي تقليدي إلى شعري "يغني لي وأنا أنشر الملابس الصغيرة على أحبال القصيدة".
يمكن القارئ أن يلمح كيف تحول التفاصيل الحياتية إلى نصوص شعرية، حين تخلع بطاريات اللعبة، وتتحدث معها، أو حين تنزلق على أرضية المطبخ المبلله، فتسقط أجزاء منها وبعض الذكريات، لتكتشف مع النص أنها فقدت أجزاءها "لا لسان أتذوق به ملح الأرز، ولا عين أراقب بها نضج الدجاجة داخل الفرن، لا أنف أتشمم به رائحة الشواء، ولا أصابع أقلب بها الإناء الكبير".
هنا تذوب الفروق بين العوالم الحقيقية والعوالم المتخيلة، بل يمكن القول إنها تستعير أحياناً الطريقة التي تفكر بها طفلتيها، الحاضرتان دائماً في العالمين، وتتماهي معهما فتصنع عالماً شبيها بهما، مثلما نرى في قصيدة سبونج بوب "أخبره أن الإسفنجة المطيعة ستوفر على نفسها تجربة الاصطدام بالأشرار أمثالي وتجنب نفسها خطر الاختيارات الخاطئة"، أو القصيدة التي تحذر فيها طفلتها من أسنان الدب، أو التي تحاول فيها إقناع الأسد بأكل الخس لأنه مفيد للبشرة.
واقعية سارة تطاردها فتهرب منها بالخيال، لذا فهي تطلب من روبين ويليامز أن يرسلوا معها في انتحارها الأخير غسالة الأطباق، لأنهم أخبروها أن غسيل الأطباق حل مناسب للهرب من ملل الموتى  القدامى ومن اجترار الذكريات، وهنا تحول الموت، وكل الأطروحات الشعرية عنه، إلى مادة خام للتسلية، بل امتداد للحياة، فهي تفكر في غسيل الأطباق حتى بعد موتها.
تقسم سارة عابدين ديوانها إلى قسمين: "في البيت"، و"فاصل قبل نهاية العالم"، في القسم الأول نتجول في "بيت سارة عابدين الشعري"، حيث تتحول كل تفاصيله إلى قصائد شعرية، تتحول كل حركة لسكان البيت إلى فعل شعري، يغدو تحرك الهواء مقدمة لقصيدة، لتخرج سارة من البيت، الذي يشبه أي بيت آخر، إلى فضاء أوسع وبيت يخصها وحدها، حيث يغدو الشعر هو مفتاحها الذي تفتح به بوابة البيت وتطل به على العالم، والذي تحول به تفاصيل البيت إلى تفاصيل كونية، تبدأ من الخاص ولا تنتهي بالكوني، دون ادعاء ودون تزيد، ولكن بدأب وإخلاص شديد للقصيدة.
في القسم الثاني من الديوان تطل سارة على العالم، وإذا كان القسم يحمل عنوان "فاصل قبل نهاية العالم"، فإن القارئ لن يجد فيه أيضاً ما يتوقعه من قسم بهذا الاسم، حيث نهاية العالم بالنسبة لها لا تعني إلا الصمت، الذي تكتب قصيدة خصيصاً له، حين يختفي المنزل، وتعيش في صفحة بيضاء، نهاية العالم تبدو بالنسبة لسارة مرادفاً لنهاية الوقت، لذا نجد قصيدة عن ابتلاع الوقت، وقصيدة تقول فيها: "احتاج الكثير من السكون لأحدد بدقة من أشعر به من بين أكوام المشاعر المختلطة بداخلي". عندما يهدأ العالم، عندما تخلد للنوم، الذي يبدو بالنسبة لها مرادفاً للموت، الذي تنتظر حياة أخرى بعده، ينتهي العالم، ويهدأ الصخب، الذي تهدي له الديوان، وهو ما يمكن تفسيره بأنها تهدي ديوانها إلى الحياة، أو الحياتين المتوازيتين، الحياة التي تعيشها، والحياة التي صنعتها بالشعر لتعينها على احتمال الحياة الأولى.
ما الشعر إذن بالنسبة لسارة؟ الشعر حياة. تقول في قصيدة: "القصيدة لن تنتهي إلا لو توقفت عن الحياة"، لذا فهي تحول كل شيء في حياتها إلى شعر: "حياتي ويومي ببساطة هو أنني أفعل كل الأشياء بطرق تصلح للكتابة، أفرش أسناني ببطء شديد لأقبض على المشاعر المتساقطة قبل أن تنزلق في دوامة الحوض"، وهي لا تدعي بطولة في ذلك، بل تقول "أكتب فقط لأتنصل من مهامي المنزلي وواجباتي المنزلية"، لكن الأمر يتجاوز هذا المعنى إلى أن الكتابة بالنسبة لها تبدو عالماً آخر تستبدله بعالمها الذي تتمرد عليه وعلى اعتياديته "كل هذا لأكتب قصيدة، لا تفعل شيئاً، سوى أنها تمنعني من الوقوف حافية على بلاط النافذة البارد، ومتابعة زوجة حارس المنزل، وهي تطارد أطفالها في الشارع، دون أن تطمح في أي حيوات أخرى".
بالشعر تصنع سارة عالمها كما تريد، كما يليق "بجلالها"، كما تقول في قصيدة "سأعيد هندسة الكون"، لذا فهي تعيد رسم كل شيء، بل تغير النظرة التقليدية للخير والشر، فتطلي أظفار الشيطان بطلاء وردي وتعلمه أكل السوشي بشوكته.
استطاعت سارة عابدين في هذا الديوان أن تحول حياتها، بجرأة شديدة، إلى قصيدة شعرية، استطاعت أن تخلق حياتها التي تحبها إذا شئنا الدقة، والتي تسرقها من بين الوقت الضائع بين حوض الغسيل والبوتاجاز، ولا تخجل من ذلك، بل تقول في قصيدة "ثمة امرأة منكوشة الشعر تضغط بشدة على راحة يدها اليسرى، حتى أن أظافرها تركت علامات حمراء صغيرة في راحة اليد، لمحتها وهي تكتب بسرعة باليد اليمنى، اليد نفسها التي تكافح لتظل ممسكة بالقلم حتى تنتهي من الكتابة، ولا تستبدله بقطعة القماش التي كانت جزءاً من فستان الصغيرة، لتنظف بها تلك العلامات الدائرية القذرة".
هنا صراع بين "أنا"، و"هي"، بين رأيين متناقضين: "أنا نفس المرأة التي كانت تظن أن أغنية الحياة بوسعها أن تطغي على ترنيمة الموت"، بين سارتين، بين سارة، الزوجة وربة المنزل التي تشبه أية امرأة أخرى، وبين سارة الشاعرة المختلفة التي تحاول أن تعطي معنى لحياتها التقليدية بتحويلها إلى قصائد شعرية، بين العالمين المتناقضين، المكلمين لبعضهما، واللذين تبدو فيهما كأليس التي تغادر عالمها التقليدي إلى بلاد العجائب، تبدو الكتابة مبرراً، مفتاحاً لعالم العجائب، طريقاً للحياة كما يحدث في كل القصص الأسطورية (سندريلا مثلا الموزعة بين عالمين، تهرب من أحدهما للآخر كي تحتمل الأول)، تقول سارة "أنا أكتب لأنني لم أستطع أن أغير العالم، لم أستطع حتى أن أغير السجادة فاتحة اللون التي تظهر بها كل البقع الصغيرة"، هنا تبدو سارة على عكس كل الكتاب الذين يقولون إنهم يكتبون لأهداف كبرى، هي هنا تكتب بسبب انهيار كل الأسئلة الكبيرة المتعلقة بتغيير العالم، كما تكتب لأسباب أخرى تافهة "لم أستطع أن أغير السجادة"، وهذه المراوحة بين العام والخاص، بين الأهداف الكبرى والأخرى الصغيرة شديدة الشخصانية أحد أسباب تميز هذا الديوان، وأحد الطرق التي تستخدمها تقنياً في بناء صورها الشعرية شديدة الخصوصية.
نحن هنا أمام شخصيتين كما تحدثنا من قبل، إحداهما تتحدث عن الأخرى بصيغة الغائب، تتبادلان الحضور والوجود، وتسرق كل منهما من الأخرى وقتاً لوجودها وحياتها، وهذا يكشف ميزة أخرى للديوان، هو أنه طرق مجالاً لم نعتد عليه من قبل، حيث تتراجع قصائد الحب المعتادة، والقصائد التي تندد بالمجتمع الذكوري، أمام امرأة غائصة في عالم لم يكتب عنه أحد من قبل، لا تتمرد عليه، لأنها تعرف أنه عالمها الذي تحبه، لكنها تهرب منه لتخلق لنفسها عالماً موازياً يمكنها من العودة وقتما تحب.
أكثر من يميز هذا الديوان هو الجرأة، الجرأة على كافة المستويات، مستوى السرد، مستوى تحطيم الشكل التقليدي للشعر، وعلى مستوى شكل "الشاعرة" المعتاد، هناك أيضاً الجرأة في التعامل مع الأشخاص المحيطين بها شعرياَ. سارة تطرح نفسها كما هي، بدون تجمل أو تصنع أو تزيد أو تزييف. وإذا كانت تابوهات الكتابة معروفة لنا جميعاً، ومحصورة في ثلاثة أشياء، فإن تابوهات سارة في الديوان هي تابوهات مجتمعية، لا يهمها كيف يراها العالم، المهم كيف ترى هي نفسها، لدرجة أنها تقول في آخر القصيدة الأولى أنها اقتبست القصيدة من اسم ديوان لأورهان والي، لأنها تصنع قصيدتها بمقاييسها هي، لا بالمقاييس التي اعتاد العالم عليها. هنا الجرأة حتى في انتقاد الذات والسخرية منها لا تخجل من أمراضها الإنسانية "افعل أشياء جميلة لكل الناس حتى تلك المرأة الشريرة في عيادة طبيب الأطفال التي أرادت أن تتخطى دوري (أنا) لمجرد أنها تظن أن طفلتها الرضيعة توشك على الوفاة"، مع ملاحظة كلمة (أنا) التي تضعها بين قوسين.
أنت في هذا الديوان تجد كل التفاصيل التي يمكن أن تجدها في مجلة نسائية، وكل ما يهم سارة كامرأة، مثل حدثها عن "إيكيا مصر"، تتنحدث لأمها عن اللبن الذي يفور،  نرى "تمارين يوجا لتصغير الأنف، ماذا تفعلين إذا التصق اللبنان في شعرك، كيف تتخلصين من الروائح السيئة للثلاجة، خصم 25 % على تاتو الأظافر" لكن الأجمل هنا هو كيف حولت كل هذا إلى شعر، كيف تجعلك تقرأ هذا وتقول إنه شعر مختلف، كيف استطاعت أن تصنع من هذا الركام شعراَ. تقول: "أنا ربة منزل، تتلطخ يداي يومياً بعصير الطماطم، لا أتأفف وأنا أعجن البيتزا دون قفازات، أتذوق الأرز النيء قبل أن أن أحشو به بطون الحمائم المنتفخة، وبقلب قاس أغرز خلات الأسنان المدببة في نهاية الحمامة حتى لا ينفرط الأرز، ..، أفعل كل هذا بمهارة وسرعة لكي يتبقى وقت كاف أسجل فيه هذه السطور، لتقرأها أخريات بعد موتي، ويقلن: "أووه، كانت تجيد حشو الحمام وخبز البيتزا، مسكينة خطفها الموت خطفاً"، بينما في الحقيقة الموت لم يخطفني، كنت أنتظره لأحكي هناك حكايات للموتى القدامى.
والموت هو إحدى الثيمات الأساسية في هذا الديوان، والتي لا تبدو سارة مبالية به ألبتة، لأنها تراه عالماً آخر، بل أحد العوالم التي تعيشها، لا تراه سوى فاصلاً آخر، تستكمل بعده ما بدأته، يحضر الموت هنا في قصيدة "تطبخ القصائد وتبتسم"، كما يحضر في قصائد أخرى، لكنه لا يبدو أكثر من عالم آخر مواز، تواصل فيه ما كانت تفعله في حياتها، لذا فهي في فصيدة أخرى تطلب أن يكون معه غسالة أطباق بعد الموت، وفي هذه القصيدة تقول إنها ستحكي حكايات للموت، لأنها لا تخافه، فقط "تتمنى فقط أن يمهلها عزرائيل دقيقة تغلق فيها الصنبور المفتوح، حتى لا يغرق المنزل بالماء، وتتأفف عائلتها من أفعالها اخلخرقاء في موتها وحياتها".
هذه ليست كتابة سهلة، بل شديدة الصعوبة، على كل المستويات، سواء بناء النص، أو تركيب الصورة، أو محاولة التجريب بصنع شكل مختلف للنص. وبمناسبة الصورة الشعرية في الديوان، فهناك أكثر من مستوى لها، هناك صورة "البيت" كاملاً في القصائد، والتي تجعلك عندما تقرأ القسم الأول تشعر كأنك تقرأ نصاً طويلاً تعرف كل تفاصيله، وتتبع شخصياته من نص إلى آخر، هو صورة تخص كل قصيدة بشكل منفصل تكتشفها من الكلمة الأخيرة في النص، فضلاً عن الصور التي تضيء الديوان دهشة، تقول: "لم أعد أمتلك أذناً أعلق فوقها الوردة، أشتريت أذنا جديدة من بائع قطع الغيار الآدمية، أمام المقابر، لكنها لم تكن متناسقة من وجهي"، أو قولها "الثلاجة تخبرني أنها صديقتي، وأن لا أصدقها، تخفي مني قطع الشوكولته عندما أنهض في منتصف الليل للبحث عنها"، أو "أحاول تركيب رأسي من جديد، لكنه بارد جداً أكثر مما تحتمل أصابعي، أتركه على منضدة مطبخي بجوار حبات الفراولة وقطع المانغو المتجمدةأو قولها: "الشبشب القديم الممتلئ بالملل، يراقبني دائماً"، أو "الغسالة التي أطعمها ملابس كل يوم"، هنا نحن بصدد عالم سحري كامل مبني على الخيال الطازج.
لكن جمال الصورة هنا، نابع من رؤية سارة التشكيلية للنص، فضلاً عن أنها لا تكتفي بكتابة نص أشبه بوصفات الطعام كما تقول في نص لها، لكنها تميل إلى التجريب، وإعادة فك وتركيب النصوص لصنع نص يخصها على كافة المستويات، فتلجأ تارة للحديث مع النص "أستطيع بثقة أن أضع خطاً أسفل هذا السطر، ليعلم النص أنه قد انتهى ويتركني أذهب للنوم حالاً"، أو تلجأ لتقسيم النص بفواصل شعرية، مثل قصيدة نص "مشتت"، التي تضع فيها فواصل بين المقاطع الشعرية لجمع الأرز المتساقط من الطبق الصغير، أو بأن تغرق في السرد، ثم تتحول بين الضمائر لنفاجأ  أن السارد في آخر النص هو "آلة رد بلهاء تردد ما سجلته سارة كببغاء أحمق".

هنا عودة إلى السؤال الذي طرحته في السطر الأول: ما هو الشعر؟ بالتأكيد هو ما تكتبه سارة عابدين.

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...