الثلاثاء، 13 مارس 2018

"يوم آخر من النعيم" لـ عبير عبد العزيز.. طريق النص الثالث


كان خوان ميرو ـ أحد أشهر فناني المدرسة التجريدية ـ يقول: "أنا لا أميز أبداً بين الرسم و الشعر، أحياناً أوضح لوحاتي بعبارات شعرية وأحياناً العكس"، وهذه الرؤية لوحدة الفنون وتراسلها تبدو هي الطابع الأغلب لنتاج الشاعرة المصرية عبير عبد العزيز.
في ديوانها الأخير "يوم آخر من النعيم"، تقدم عبير نصوصاً رفقة أعمال أبرز نحاتي السلك في العالم، تتقاطع مع النصوص حيناً، وتكملها حيناً آخر سعياً لتشكيل بصري للنص، غير أن هذا ليس جديداً عليها، فقد قدمت ديوانها الأول "مشنقة في فيلم كارتون" مع صور من فيلم أنيميشن حائز على الأوسكار، وقدمت ثاني دواوينها "عندما قابلت حجازي" مع لوحات للفنان الكبير الراحل أحمد حجازي، وقدمت ثالث دواوينها "بيننا سمكة" مع رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني، وفي كل هذا كانت عبير تقدم الشعر مقترناً بفن آخر يتبادلان الإفادة من إمكانييات كل منهما، سعياً لتمازجهما.
وامتدت هذه الرؤية للشعر في أنشطتها الشعرية الجميلة الأخرى، سواء كانت خاصة بها مثل تقديم الشعر على أقمشة الخيامية مع لوحات حجازي، أو الأنشطة الأخرى التي تلفت بها نظر المجتمع للشعر، بطرق شديدة الجدة والبساطة والعمق في آن، سواء ذلك الذي قدمته في مشروعها "ذات للشعر"، عبر تقديم الشعر مع العرائس المتحركة أو الموسيقى أو حتى إعادة ترتيبه لتقديم نصوص مختلفة تماماً، أو تلك الأفكار المهمة التي قدمتها في مشروعي "استاند شعر" و"ادعم شعر"، في محاولة للوصول بالشعر أبعد من قارئه التقليدي. فلم تكتف بالذهاب بالشعر إلى المدارس، وإلقاء القصائد بل قدمته للطلاب، ولغيرهم في صورة مبهجة، مرة في صورة كروت بوستال، ومرة بأن قرنته مع الأبراج، ومرة في أفلام أنيميشن،  ومرة في بوسترات الأوريجامي وغيرها من الأفكار المدهشة.
إن اللافت في كل ما سبق هو رؤية عبير عبد العزيز للشعر، وهو ما تطلق عليه "الفن الثالث" في مقدمتها لديوانها الأخير حيث تقول "عندما أكتب القصيدة أجدها تستدعي فنوناً متوازية معها لتخلق نصاَ آخر غير المكتوب"، هذه الرؤية التي ترى فيها النص حراً بدون قيود، يمكنه أن يتضافر مع أي فن آخر:
القصائد الحقيقية
بلا ترباس أو قفل او مفتاح
هي فقط
بوابات ونوافذ
متاهات، رحلات لا حصر لها
وفي هذا النص لا ترى عبير الشعر في الحروف المتراصة فوق الورقة فقط، بل في كل شيء، ومن هنا تربطه بالفنون الأخرى، وهذه الرؤية لشعرية العالم ولجماليته، وهو ما يعتبره الفنان والكاتب السوري الراحل "محاولة لخلق جمال جديد يضاف إلى جمال الطبيعة المركّب".
وهذه الرؤية الجمالية للشعر تنتقل بين دواوين عبير عبد العزيز وصولاً إلى ديوانها الأخير، لكن اللافت حقاً في هذا الديوان، هو التطور الشعري لغة وبنياناً وتصوراً، فلم تنشغل عبير بتقديم مشروع موازٍ للقصائد ـ أقصد أعمال السلك ـ عن العناية ببنية القصائد، والتي وإن جاءت مكملة لمشروعها السابق، إلا أنها مختلفة ومتطورة في بنيتها ورؤيتها للعالم.
في هذا الديوان نحن أمام نصوص قصيرة بدون عنوان، تبدو منفصلة متصلة، متقاطعة في أحيان أخرى، متضافرة مع الأعمال الفنية المختارة، لتجد أنك أحياناً تجد أن أحد الأعمال يبدو عنواناً لقصيدة، وفي أحيان أخرى، تضيف إعادة تشكيله في الصفحة، وزاوية تصويره قراءة أخرى للقصيدة، كما في نص "هل يعرف أحدكم الغزالة".
تحضر الغزلان والسناجب والقطط والأشجار والحيوانات والألعاب بكثرة، كأننا نرى العالم من عيني طفل، وعبير عبد العزيز التي بدأت مشوارها مع النشر بكتاب للأطفال، وفي دواوينها الأربعة نجد كتابين للفتيان، تحافظ في هذا الديوان الذي تقدمه للكبار على "عين الطفل" ودهشته أمام العالم.
هناك أطفال
ينفخون البالونات عن آخرها
ثم بدبوس مدبب ينثرون هواءها
ولا يقابل هذا الاهتمام برؤية الطفل، سوى اهتمام مقابل بالحرب، التي تتناثر بنادقها ودباباتها ورصاصاتها على مدار القصائد، بل في واحدة من أجمل نصوص الديوان:
الأمهات وحدهن من تكورت بطونهن
لتحمل الصغار
..
من تكورت دموعهن
على الراحلين بعد المعارك
الأمهات من أرض الوطن
أو من أرض العدو
غير أن الصراع بين هذين العالمين: عالم الأطفال، وعالم الحرب، ينتهي بانتصار الطفولة التي تقتلها الدبابات، ومع ذلك فهم يتعاملون معها بكل عفوية:
ضع الأطفال في معركة
سوف يعتلون فوهات المدافع كأحصنة
يلوحون بأيديهم في الهواء
يجمعون طلقات الرصاص الفارغة
لمعانها يذكرهم
بقطع النقود المعدنية في حصالاتهم.
وتضع عبير عبد العزيز هذين العالمين وجهاً لوجه، عندما  تستحضر أغنية للأطفال من التراث الشعبي، وتعيد تشكيلها بظلال من عالمي الأطفال والجنود:
فكرت أن أرسل ملايين الدببة
للعساكر وهم على أهبة الاستعداد للقتل
لعل الدببة توقعهم في البئر
وحين يدخل الأطفال عالم الحرب، يغدو العالم بلا مستحيلات، لأنها تقدمه برؤية وعين الأطفال الذين "يوقظون الموتى بهزهم هزات قوية، أو جذب أيديهم لأعلى، أو بمحاولة إضحاكهم عن طريق دغدغة بطونهم".
عبير لا تحدد مكاناً ولا زماناً للحرب، لكنها ضد الحرب على إطلاقها، لا تقف في صف ضد آخر، ولهذا فهي في قصيدة "الأمهات" تساوي بين الأمهات من أرض الوطن أو من أرض العدو، ولا تترك للقارئ فرصة لينحاز ضد أحد الفريقين، بل يتعاطف معهن وهن "يحلفن ببطونهن، بدموعهن، بالملابس المتكورة على الأخذ بالثأر"، ثم تتركه في النهاية ليأسى على الأمهات في أرض الوطن والعدو، بعد أن انكمشت قلوبهن بفعل إقامة المعاهدات ونسيان الثأر.
بل إن الجنود  أنفسهم مظلومون، لأنهم يساقون إلى الحرب، ويتحولون من مدنيين إلى مقاتلين مغلوبين على أمرهم، بل إن معظم القصائد رثاء لهؤلاء الجنود ذوي الأحلام الميتة، الذين سيقوا إلى ميادين القتال:
لماذا لا تتركوني أحلم
فالحلم يُبعدني مسافات كبيرة عن مواقع المعارك
التي تعلو فيها  نبرات صوت المقهورين
لا تلقي الشاعرة هنا باللوم بعيداً عن أولئك الموجودين في ساحة الحرب، مهما فعلوا، سواء الممرضات في مستشفى العدو اللائي لا يعرفن  كيف ذهبن إلى ساحة القتال، أو الجنود، الذين يتناقلون الأسرار لأنها ستموت معهم في النهاية:
"ربما الأسرار تتكاتف ذات يوم
لتجبر الجنود  على العودة إلأى بيوتهم
لتجذب الجنود بعيداً عن الساحات
ربما تخفي أقدامهم
فييأس الساسة والقادة
من حلم السيادة والجيش الذي لا يقهر"
في هذا الديوان عجائز ومقعدون وعائدون من الحرب، لا يملكون سوى ذكرياتهم، ليس مهماً في أي جبهة كانوا، فالحرب انتهت وخلفت هموماً ثقيلة، وهذه الصورة التي تتنقل من قصيدة إلى أخرى، تجعلنا أمام  سيناريو لحكاية طويلة، تتوالى صورها في الديوان، لتكمل صورة لعمل فني،لتتواشج الصورة والحكاية مع الأعمال الفنية، ليس فقط لأن "الحواديت سلاحنا الوحيد"، كما تقول الشاعرة، ضد الحرب وتعنت الحياة، بل لأنهما من الفنون الأقرب للوحات المختارة.
وفي هذا العالم القاتم، الذي مات فيه الجنود في الحرب، تحضر "الصديقة" ، التي تخاطبها الشاعرة على مدار الديوان، كأنها ملجأ للروح في عالم مشوه. كعلاقة إنسانية بسيطة، تستحضر رؤية الطفل للأشياء، فترى السوبر ماركت سيدة ضخمة تراقب عن كثب، وتتعامل مع رفوفه المتراصة كممرات ودهاليز "لعبة المتاهة"، وتنظر في المرآة "إلى ذات الرداء الأحمر"، وإلى "سندريلا".
صديقتي، كان السوبر ماركت
في التاسعة صباحاً
سرنا الصغير الذي لم يعلمه أحد
ونحن نكمل اليوم بأعمالنا المعتادة المملة  
ورغم ذلك تبدو الصديقة، التي كانت تجعل ابتسامتها غزالا صغيراً،  جزءاً من الماضي، مثل أولئك "الذين يتحولون إلى أشباح على الطريق عندما تمر العربات بجانبهم أو أمامهم"، لكنها تحضر في الديوان مثل طيف يرف بين قصائد الحرب ليخفف وطأتها بالصداقة التي تصفها بأنه "ذللك الشعور الذي يفصل بين حملي أحلامي، في طريق طويل، ولحظة تضغط علي بشدة، لأقفز من بناية قديمة"، فتبدو كأنها ممر بين الحياة والموت، تمنحه الصديقة للشاعرة لتقف فيه.
من الممكن أن يتسع معنى الحرب في هذا الديوان، لا سيما إذا كان الشعراء هم الجنود، ففي نص أخير نجد الأسلاك الشائكة وهي تحيط بالقصيدة، بكلمات النص البسيطة الواضحة كأنها بيان لرؤيتها الشعرية:
"كم من شعر وشعراء يقيمون الحواجز
يبنون الأعشاش والقصائد
لظلال قصائد خاوية
لكن القصيدة القصيدة
تظل في الخارج".
في ظني فإن هذا ما تريد عبير عبد العزيز قوله في هذا الديوان، بل وفي كل مشروعها الشعري والإنساني، حيث القصيدة تقفز فوق وخارج الأسوار الشائكة، سواء تلك التي تصنعها الحروب أو الحكومات، أو ذواتنا، أو حتى طريقة فهمنا للشعر وللطاقة الكامنة داخله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عن سارة عابدين التي نظرت في مرآة الشعر حتى وجدت نفسها

ما هو الشعر؟ تقول الشاعرة المصرية سارة عابدين في ديوانها الجديد "المرأة التي نظرت في المرآة حتى اختفت" والصادر أخيراً عن د...