ما هو الشعر؟ يقول الشاعر التشيلي نيكانور
بارّا إن "كل شيء شعر ما عدا الشعر"، هذا هو التعريف الأصعب والأكثر
شاعرية وتعبيراً عن الشعر، وهذا هو ما تفعله وتقدمه أيضاً الشاعرة المصرية سارة
عابدين، في ديوانها الثاني "أبتلع الوقت" الصادر أخيراً عن دار روافد
بالقاهرة.
اختارت سارة في ديوانها التعريف الأصعب،
والطريق غير الممهد وغير المعتاد، اختارت أن تحول كل ما هو ليس شعراً، وكل ما لم
نتعود على شاعريته إلى نصوص تفيض بالشاعرية الأخاذة. تقدم سارة في "أبتلع الوقت"
ديواناً غير اعتيادي، لا يجد فيه القارئ الشعر الذي اعتاد قراءته من قبل، لا تقدم
الصور الشعرية والبناء التقليدي للقصيدة، لا تقدم المواضيع المعتادة والقوالب
الجامدة للقصيدة، لا تقدم في الديوان سوى ذاتها، سارة عابدين، التي تعرف نفسها،
وديوانها في القصيدة الأولى منه قائلة: "أنا سارة عابدين،
أنا برج القوس، أؤمن بالتجريب، لا أحب الكتابة كالمتواليات الهندسية، أكتب الشعر كما
أكتب قائمة المشتريات المطلوبة من السوق الكبير، وكما أكتب وصفات الطبخ في القنوات
المتخصصة في الطعام". لا يبدو هذا شعراً اعتيادياً، لأن الشاعرة هنا قررت
الكتابة بشكل غير اعتيادي، قررت أن تحول حياتها التقليدية التي تتوزع ما بين
المطبخ والنافذة مقعدها الأحمر المفضل إلى قصائد شعرية شديدة العذوبة.
نحن في الديوان نرى سارة عابدين بالفعل، فتاة
برج القوس، التي تحول تفاصيل حياتها إلى قصائد، وبسبب المشهدية العالية في معظم
الديوان، والتي استفادت فيها من تجربتها ورؤيتها كفنانة تشكيلية، نستطيع أن نتخيل
حارس البناية ـ التي تسكنها ـ ذا العين الواحدة، وزوجته، وأطفاله المتسخين دائماً،
نستطيع أن نراها وهي تتحرك في منزلها، وهي تقف في المبطخ أو تغسل الأطباق أو تذاكر
لطفلتها وتشرح لها الفرق بين الحيوانات اللاحمة والعاشبة، من الممكن أن نعد معها
فتحات سلة الغسيل، ونتعرف على محتويات الرف الأوسط من الدولاب، ونراها وهي تطعم
طفلتها الصغرى الأرز، ونرى قصة الفرنش كاريه، والشاشة الكبيرة التي تعرض البرنامج
القديم، نعرف ما الذي تخبئه في ثلاجتها، وتقع أعيننا على باب الحمام المتآكل
قليلاً من أسفل، نراها في القصائد وهي تتحدث عن علاقتها بملابسها أو جيرانها أو
الطبيب أو الصديقة اللحوحة، ثم تطل بعد ذلك من نافذتها على العالم.
وإذا كانت كل هذه التفاصيل تفاصيل اعتيادية،
فإن غير الاعتيادي هو تحويل هذا إلى شعر، لكن سارة تتجاوز هذا إلى تحويل كل ما مضى
إلى جزء من عالم خيالي، تلجأ إليه كحائط صد في مواجهة هذه الاعتيادية، وهذا
التنميط لليومي المعتاد، لذا تصنع عالماً موازياً، تقفز فيه من المشهدية الطبيعية
لمشاهد تصنعها على عينها، بكل تفصيلاتها، يخطف الخيال فيه القارئ، ويتركه مسلوب
اللب.
لذا يجد القارئ للديوان وجهين لسارة، وجه
المرأة المهمومة ببيتها، ووجه الشاعرة التي تهرب من كل هذا، وتسكن القصيدة مساء،
كما تقول في عنوان أحد نصوصها، وتحول كل هذا إلى شعر، وهكذا يمضي الوقت، الذي
يبتلع وجهاً منها، فتبتلعه بوجهها الآخر وتصنع زمنها الخاص، وعالمها شديد الالتصاق
بها، لذا نجد أن حوض المطبخ يتمدد ليتسع للكوب الكبير، نجدها تتحدث
مع الأطباق والملاعق وتتمنى لهم يوماً جيداً، ويتحول جامع الروبابيكيا إلى جامع بقع، وتشفط الأمطار بالمكنسة
التي كونتها من حروف متناثرة "مكنسة"، ولأن هذا عالمها فهي تتحكم
فيه كما تريد "لن تكون هناك "أ م ط ا ر" طالما أنها لا تريد ذلك.
هنا نجد "بيتاً"
آخر مواز للبيت الواقعي: "الحساء ينضج على نار هادئة في مطبخ القصيدة، مجرد ح
س اء"، الحساء هنا كما نرى مجرد حروف متقطعة.، وهكذا يتحول كل فعل عادي تقليدي
إلى شعري "يغني لي وأنا أنشر الملابس الصغيرة على أحبال القصيدة".
يمكن القارئ أن
يلمح كيف تحول التفاصيل الحياتية إلى نصوص شعرية، حين تخلع بطاريات اللعبة، وتتحدث
معها، أو حين تنزلق على أرضية المطبخ المبلله، فتسقط أجزاء منها وبعض الذكريات، لتكتشف
مع النص أنها فقدت أجزاءها "لا لسان أتذوق به ملح الأرز، ولا عين أراقب بها نضج
الدجاجة داخل الفرن، لا أنف أتشمم به رائحة الشواء، ولا أصابع أقلب بها الإناء الكبير".
هنا تذوب الفروق
بين العوالم الحقيقية والعوالم المتخيلة، بل يمكن القول إنها تستعير أحياناً الطريقة
التي تفكر بها طفلتيها، الحاضرتان دائماً في العالمين، وتتماهي معهما فتصنع عالماً
شبيها بهما، مثلما نرى في قصيدة سبونج بوب "أخبره أن الإسفنجة المطيعة ستوفر على
نفسها تجربة الاصطدام بالأشرار أمثالي وتجنب نفسها خطر الاختيارات الخاطئة"، أو
القصيدة التي تحذر فيها طفلتها من أسنان الدب، أو التي تحاول فيها إقناع الأسد بأكل الخس
لأنه مفيد للبشرة.
واقعية سارة تطاردها
فتهرب منها بالخيال، لذا فهي تطلب من روبين ويليامز أن يرسلوا معها في انتحارها الأخير
غسالة الأطباق، لأنهم أخبروها أن غسيل الأطباق حل مناسب للهرب من ملل الموتى القدامى ومن اجترار الذكريات، وهنا تحول الموت، وكل الأطروحات الشعرية
عنه، إلى مادة خام للتسلية، بل امتداد للحياة، فهي تفكر في غسيل الأطباق حتى بعد
موتها.
تقسم سارة عابدين ديوانها إلى قسمين:
"في البيت"، و"فاصل قبل نهاية العالم"، في القسم الأول نتجول
في "بيت سارة عابدين الشعري"، حيث تتحول كل تفاصيله إلى قصائد شعرية،
تتحول كل حركة لسكان البيت إلى فعل شعري، يغدو تحرك الهواء مقدمة لقصيدة، لتخرج
سارة من البيت، الذي يشبه أي بيت آخر، إلى فضاء أوسع وبيت يخصها وحدها، حيث يغدو
الشعر هو مفتاحها الذي تفتح به بوابة البيت وتطل به على العالم، والذي تحول به
تفاصيل البيت إلى تفاصيل كونية، تبدأ من الخاص ولا تنتهي بالكوني، دون ادعاء ودون
تزيد، ولكن بدأب وإخلاص شديد للقصيدة.
في القسم الثاني من الديوان تطل سارة على
العالم، وإذا كان القسم يحمل عنوان "فاصل قبل نهاية العالم"، فإن القارئ
لن يجد فيه أيضاً ما يتوقعه من قسم بهذا الاسم، حيث نهاية العالم بالنسبة لها لا
تعني إلا الصمت، الذي تكتب قصيدة خصيصاً له، حين يختفي المنزل، وتعيش في صفحة
بيضاء، نهاية العالم تبدو بالنسبة لسارة مرادفاً لنهاية الوقت، لذا
نجد قصيدة عن ابتلاع الوقت، وقصيدة تقول فيها: "احتاج الكثير من السكون لأحدد
بدقة من أشعر به من بين أكوام المشاعر المختلطة بداخلي". عندما يهدأ العالم، عندما تخلد للنوم، الذي
يبدو بالنسبة لها مرادفاً للموت، الذي تنتظر حياة أخرى بعده، ينتهي العالم، ويهدأ
الصخب، الذي تهدي له الديوان، وهو ما يمكن تفسيره بأنها تهدي ديوانها إلى الحياة،
أو الحياتين المتوازيتين، الحياة التي تعيشها، والحياة التي صنعتها بالشعر لتعينها
على احتمال الحياة الأولى.
ما الشعر إذن بالنسبة لسارة؟ الشعر حياة.
تقول في قصيدة: "القصيدة لن تنتهي إلا لو توقفت عن الحياة"، لذا فهي تحول كل شيء في حياتها إلى شعر:
"حياتي ويومي ببساطة هو أنني أفعل كل الأشياء بطرق تصلح للكتابة،
أفرش أسناني ببطء شديد لأقبض على المشاعر المتساقطة قبل أن تنزلق في دوامة الحوض"،
وهي لا تدعي بطولة
في ذلك، بل تقول "أكتب فقط لأتنصل من مهامي المنزلي وواجباتي المنزلية"،
لكن الأمر يتجاوز هذا المعنى إلى أن الكتابة بالنسبة لها تبدو عالماً آخر تستبدله
بعالمها الذي تتمرد عليه وعلى اعتياديته "كل هذا لأكتب قصيدة، لا تفعل شيئاً،
سوى أنها تمنعني من الوقوف حافية على بلاط النافذة البارد، ومتابعة زوجة حارس المنزل،
وهي تطارد أطفالها في الشارع، دون أن تطمح في أي حيوات أخرى".
بالشعر تصنع سارة
عالمها كما تريد، كما يليق "بجلالها"، كما تقول في قصيدة "سأعيد هندسة
الكون"، لذا فهي تعيد رسم كل شيء، بل تغير النظرة التقليدية للخير والشر،
فتطلي أظفار الشيطان بطلاء وردي وتعلمه أكل السوشي بشوكته.
استطاعت سارة عابدين في هذا الديوان أن تحول
حياتها، بجرأة شديدة، إلى قصيدة شعرية، استطاعت أن تخلق
حياتها التي تحبها إذا شئنا الدقة، والتي تسرقها من بين الوقت الضائع بين حوض
الغسيل والبوتاجاز، ولا تخجل من ذلك، بل تقول في قصيدة "ثمة امرأة منكوشة الشعر
تضغط بشدة على راحة يدها اليسرى، حتى أن أظافرها تركت علامات حمراء صغيرة في راحة اليد،
لمحتها وهي تكتب بسرعة باليد اليمنى، اليد نفسها التي تكافح لتظل ممسكة بالقلم حتى
تنتهي من الكتابة، ولا تستبدله بقطعة القماش التي كانت جزءاً من فستان الصغيرة، لتنظف
بها تلك العلامات الدائرية القذرة".
هنا صراع بين
"أنا"، و"هي"، بين رأيين متناقضين: "أنا نفس المرأة التي
كانت تظن أن أغنية الحياة بوسعها أن تطغي على ترنيمة الموت"، بين سارتين، بين سارة، الزوجة وربة المنزل التي تشبه أية امرأة
أخرى، وبين سارة الشاعرة المختلفة التي تحاول أن تعطي معنى لحياتها التقليدية
بتحويلها إلى قصائد شعرية، بين العالمين المتناقضين، المكلمين لبعضهما،
واللذين تبدو فيهما كأليس التي تغادر عالمها التقليدي إلى بلاد العجائب، تبدو الكتابة
مبرراً، مفتاحاً لعالم العجائب، طريقاً للحياة كما يحدث في كل القصص الأسطورية (سندريلا
مثلا الموزعة بين عالمين، تهرب من أحدهما للآخر كي تحتمل الأول)، تقول سارة "أنا
أكتب لأنني لم أستطع أن أغير العالم، لم أستطع حتى أن أغير السجادة فاتحة اللون التي
تظهر بها كل البقع الصغيرة"، هنا تبدو سارة على عكس كل الكتاب الذين يقولون إنهم
يكتبون لأهداف كبرى، هي هنا تكتب بسبب انهيار كل الأسئلة الكبيرة المتعلقة بتغيير العالم،
كما تكتب لأسباب أخرى تافهة "لم أستطع أن أغير السجادة"، وهذه المراوحة بين
العام والخاص، بين الأهداف الكبرى والأخرى الصغيرة شديدة الشخصانية أحد أسباب تميز
هذا الديوان، وأحد الطرق التي تستخدمها تقنياً في بناء صورها الشعرية شديدة
الخصوصية.
نحن هنا أمام شخصيتين
كما تحدثنا من قبل، إحداهما تتحدث عن الأخرى بصيغة الغائب، تتبادلان الحضور والوجود،
وتسرق كل منهما من الأخرى وقتاً لوجودها وحياتها، وهذا يكشف ميزة أخرى للديوان، هو
أنه طرق مجالاً لم نعتد عليه من قبل، حيث تتراجع قصائد الحب المعتادة، والقصائد
التي تندد بالمجتمع الذكوري، أمام امرأة غائصة في عالم لم يكتب عنه أحد من قبل، لا
تتمرد عليه، لأنها تعرف أنه عالمها الذي تحبه، لكنها تهرب منه لتخلق لنفسها عالماً
موازياً يمكنها من العودة وقتما تحب.
أكثر من يميز هذا الديوان هو الجرأة، الجرأة
على كافة المستويات، مستوى السرد، مستوى تحطيم الشكل التقليدي للشعر، وعلى مستوى
شكل "الشاعرة" المعتاد، هناك أيضاً الجرأة في التعامل مع الأشخاص
المحيطين بها شعرياَ. سارة تطرح نفسها كما هي، بدون تجمل أو تصنع أو تزيد أو
تزييف. وإذا كانت تابوهات الكتابة معروفة لنا جميعاً، ومحصورة في ثلاثة أشياء، فإن
تابوهات سارة في الديوان هي تابوهات مجتمعية، لا يهمها كيف يراها العالم، المهم
كيف ترى هي نفسها، لدرجة أنها تقول في آخر القصيدة الأولى أنها اقتبست القصيدة من
اسم ديوان لأورهان والي، لأنها تصنع قصيدتها بمقاييسها هي، لا بالمقاييس التي
اعتاد العالم عليها. هنا الجرأة حتى في انتقاد الذات والسخرية منها لا تخجل من أمراضها
الإنسانية "افعل أشياء جميلة لكل الناس حتى تلك المرأة الشريرة في عيادة طبيب
الأطفال التي أرادت أن تتخطى دوري (أنا) لمجرد أنها تظن أن طفلتها الرضيعة توشك على
الوفاة"، مع ملاحظة كلمة (أنا) التي تضعها بين قوسين.
أنت في هذا الديوان تجد كل التفاصيل التي
يمكن أن تجدها في مجلة نسائية، وكل ما يهم سارة كامرأة، مثل حدثها عن "إيكيا
مصر"، تتنحدث لأمها عن اللبن الذي يفور، نرى "تمارين يوجا لتصغير
الأنف، ماذا تفعلين إذا التصق اللبنان في شعرك، كيف تتخلصين من الروائح
السيئة للثلاجة، خصم 25 % على تاتو الأظافر" لكن الأجمل هنا هو كيف حولت كل هذا إلى شعر،
كيف تجعلك تقرأ هذا وتقول إنه شعر مختلف، كيف استطاعت أن تصنع من هذا الركام
شعراَ. تقول: "أنا ربة منزل، تتلطخ يداي يومياً بعصير الطماطم، لا
أتأفف وأنا أعجن البيتزا دون قفازات، أتذوق الأرز النيء قبل أن أن أحشو به بطون الحمائم
المنتفخة، وبقلب قاس أغرز خلات الأسنان المدببة في نهاية الحمامة حتى لا ينفرط الأرز،
..، أفعل كل هذا بمهارة وسرعة لكي يتبقى وقت كاف أسجل فيه هذه السطور، لتقرأها أخريات
بعد موتي، ويقلن: "أووه، كانت تجيد حشو الحمام وخبز البيتزا، مسكينة خطفها الموت
خطفاً"، بينما في الحقيقة الموت لم يخطفني، كنت أنتظره لأحكي هناك حكايات للموتى
القدامى.
والموت هو إحدى الثيمات الأساسية في هذا
الديوان، والتي لا تبدو سارة مبالية به ألبتة، لأنها تراه عالماً آخر، بل أحد
العوالم التي تعيشها، لا تراه سوى فاصلاً آخر، تستكمل بعده ما بدأته، يحضر الموت هنا
في قصيدة "تطبخ القصائد وتبتسم"، كما يحضر في قصائد أخرى، لكنه لا يبدو أكثر
من عالم آخر مواز، تواصل فيه ما كانت تفعله في حياتها، لذا فهي في فصيدة أخرى تطلب
أن يكون معه غسالة أطباق بعد الموت، وفي هذه القصيدة تقول إنها ستحكي حكايات للموت،
لأنها لا تخافه، فقط "تتمنى فقط أن يمهلها عزرائيل دقيقة تغلق فيها الصنبور المفتوح،
حتى لا يغرق المنزل بالماء، وتتأفف عائلتها من أفعالها اخلخرقاء في موتها وحياتها".
هذه ليست كتابة سهلة، بل شديدة الصعوبة، على
كل المستويات، سواء بناء النص، أو تركيب الصورة، أو محاولة التجريب بصنع شكل مختلف
للنص. وبمناسبة الصورة الشعرية في الديوان، فهناك أكثر من مستوى لها، هناك صورة "البيت"
كاملاً في القصائد، والتي تجعلك عندما تقرأ القسم الأول تشعر كأنك تقرأ نصاً
طويلاً تعرف كل تفاصيله، وتتبع شخصياته من نص إلى آخر، هو صورة تخص كل قصيدة بشكل
منفصل تكتشفها من الكلمة الأخيرة في النص، فضلاً عن الصور التي تضيء الديوان دهشة،
تقول: "لم أعد أمتلك أذناً أعلق فوقها الوردة، أشتريت أذنا
جديدة من بائع قطع الغيار الآدمية، أمام المقابر، لكنها لم تكن متناسقة من وجهي"، أو قولها "الثلاجة تخبرني
أنها صديقتي، وأن لا أصدقها، تخفي مني قطع الشوكولته عندما أنهض في منتصف الليل للبحث
عنها"، أو "أحاول تركيب رأسي من جديد، لكنه بارد جداً أكثر
مما تحتمل أصابعي، أتركه على منضدة مطبخي بجوار حبات الفراولة وقطع المانغو المتجمدة"، أو قولها: "الشبشب
القديم الممتلئ بالملل، يراقبني دائماً"، أو "الغسالة
التي أطعمها ملابس كل يوم"، هنا نحن بصدد عالم سحري كامل مبني على الخيال الطازج.
لكن جمال الصورة هنا، نابع من رؤية سارة
التشكيلية للنص، فضلاً عن أنها لا تكتفي بكتابة نص أشبه بوصفات الطعام كما تقول في
نص لها، لكنها تميل إلى التجريب، وإعادة فك وتركيب النصوص لصنع نص يخصها على كافة
المستويات، فتلجأ تارة للحديث مع النص "أستطيع بثقة أن
أضع خطاً أسفل هذا السطر، ليعلم النص أنه قد انتهى ويتركني أذهب للنوم حالاً"،
أو تلجأ لتقسيم
النص بفواصل شعرية، مثل قصيدة نص "مشتت"، التي تضع فيها فواصل بين
المقاطع الشعرية لجمع الأرز المتساقط من الطبق الصغير، أو بأن تغرق في السرد، ثم تتحول بين
الضمائر لنفاجأ أن السارد في آخر
النص هو "آلة رد بلهاء تردد ما سجلته سارة كببغاء أحمق".
هنا عودة إلى السؤال الذي طرحته في السطر
الأول: ما هو الشعر؟ بالتأكيد هو ما تكتبه سارة عابدين.