لا يمكن قراءة
رواية "رسائل سبتمبر" للروائي المصري أحمد عبد المنعم رمضان، الصادرة عن
دار "توبقال" بالمغرب، بمعزل عن روايته الأولى "رائحةمولانا"، ففضلاً عن تقاطعها معها في تناول قضيتي السلطة والموت، هناك إشارة
مباشرة إليها في صفحات الرواية. كما لا يمكن قراءتها أيضاً بمعزل عن كاتبها، فبالإضافة
إلى أنه تحضر فيها كل اهتماماته الشخصية (سياسية وسينمائية وطبية) وقراءاته كما
تبدو على صفحته الشخصية على فيس بوك، يحضر فيها بشخصه بطلاً من أبطالها.
إذا كانت تيمة رواية
أحمد عبد المنعم الأولى هي "الرائحة"، التي تنتقل من فصل إلى آخر، فإن
التيمة هنا هي "الرسائل"، وإذا كان اسم الرواية يوحي لأول وهلة بأنها قد
تنتمي إلى ما كان يسمى "أدب الرسائل"، فإنها ليست كذلك، فالرسائل هنا،
ليست متبادلة بين شخصين لتروي حكاية ممتدة، بل هي رسائل من "الموت" إلى
أشخاص تنذرهم بقرب أجلهم وتحدد موعداً لذلك وتضع نهاية لحكايتهم. لكن هذه الرسائل ليست بطلاً بذاتها بقدر ما هي محرك
للأحداث، وطريقة سلسة للانتقال من فصل إلى آخر في محاولة للوصول إلى آخر الخيط، وهو
الأمر الذي يبدو قريباً مما فعله الكاتب في روايته الأولى، وإن كان بصيغة أخرى.
الهم السياسي هو ما
يجمع بين الروايتين، فعلى الرغم من أن الرواية الأولى كانت تدور في أجواء أسطورية،
إلا أن الإشارات كانت واضحة إلى الحاكم المستبد الديكتاتور، وللشعب الذي يصنع
فرعونه ـ بغض النظر عن اسمه وزمانه ومكانه ـ لكن في هذه الرواية يختار أحمد عبد المنعم رمضان
زمناً قريباً، كلنا عشناه وتفاعلنا معه ولا زالت آثاره موجودة على أرواحنا،
فالرواية تدور في فترة ما بعد ثورة يناير 2011، ويمكننا بسهولة أن نرى الإشارة إلى
الصراع بين الألتراس والداخلية، وضحايا استاد بورسعيد وأزمة انقطاع الكهرباء وسطوة
الإعلام وأحداث ماسبيرو ومينا دانيال الذي يحضر بشكل واضح في الرواية.
هل هذه
"رواية ثورة" إذن؟ لا أريد هنا أن أدخل في الجدل حول "متى يبدأ الأدباء
الكتابة عن الثورة"، لكن الإجابة عن سؤالي الأول، هي أنه لا شك أن هذه رواية
عن الثورة، لم تتحدث عنها بشكل مباشر، لكننا رأينا شخوصها ومظاهرها، من الإعلام
الفاسد الموجه وبرامج التوك شو، إلى الانتخابات الرئاسية، إلى البلطجة، إلى
المظاهرات. وربما تبدو هذه إجابة على السؤال الثاني أيضاً، فالكتابة عن الثورة
هنا، وفي هذا التوقيت، ليست كتابة تقييم أو انحياز، بقدر ما هي كتابة رصد لما حدث،
خاصة أن كل الأحداث التي تلتها أصبحت في حكم التاريخ ـ القريب ـ لكنه يبتعد يوماً
بعد يوم، ولا يبقى في الذاكرة منه إلا بعض ما رصده المؤلف في روايته.
وربما يحيل ذلك
إلى النماذج التي اختارها الموت ليبعث رسائله إليها في هذه الرواية، فهو يرسلها إلى
ما يمكن اعتباره ظواهر فترة ما بعد الثورة، أو تلك الأسماء التي عرفها الشعب
المصري عقب انفجارة 25 يناير، ثم لم تلبث أن غابت، وموتها هو موت لتلك الفترة، وكأن
أحمد عبد المنعم رمضان يقصد باختياره هذه النماذج لإيصال الرسائل إليها، أن يبعث برسائل
ضمنية حول حياة وموت هذه الشخصيات واقعياً وبما تعنيه أيضاً، المرشحون للموت هم
ميتون بالفعل، فالمرشح للرئاسة هو ميت فعلياً لأن الإعلام أدار ظهره له ويرفض معدو
البرامج أن يجيبوا على اتصالاته "قضى إسماعيل وقته على مدار اليوم متقلباُ
على أريكته أمام قنوات التلفزيون المختلفة محاطاُ برائحة أوراق الصحف الطازجة دون
أن يفارق التليفون يده، ينظر بين اللحظة والأخرى إلى شاشته أملاُ في مكالمة صحفية
أو مداخلة تلفزيونية"، أو شاب الألتراس(والذين خفت صوتهم تماماً في الفترة
الأخيرة)، أو المحلل السياسي رؤوف غالي، أو الممثل عمرو الراوي الذي كان زميلا لمبارك،
وكأن ذلك إشارة إلى عصر تهاوى "اختفى
ولم يظهر مجدداً إلا بعد عشرات السنين، تحديداُ في 2011، حيث صار ضيفاً
دائماً في برامج التوك شو، التي باتت تحتل
جميع القنوات التلفزيونية بعرض مستمر.. ما هي إلا أيام قليلة حتى لفظته
وسائل الإعلام واستبدلته بوجوه جديدة تناسب زمناً جديدة"، ويصف المؤلف ظهوره
مجدداً في الإعلام ليروي تجربته مع رسائل الموت بأن مساّ شيطانياً أصابه، فقلّ
عمره ونضر وجهه ولعلع صوته، "ما هذا السحر الذي تبثه الكاميرات في أرواح
هؤلاء البشر حتى لو كانوا على يقين من موتهم خلال ساعات؟".
هذا السؤال الذي
يطرحه المؤلف، يذكر برائحة مولانا، برائحة السلطة، لكن السلطة في هذه الرواية التي
تمنح قبلة الحياة ليست لكرسي الحكم، بل للإعلام، للكاميرات، وكأننا هنا أمام
سلطتين على طرفي النقيض: سلطة الموت ورسائله (كمتحكم في مصائر البشر أو حتى كملجأ
يسعى إليه زياد ليقتل حبيبته)، وسلطة الإعلام(الذي يحرك الجماهير ويبعث الحياة في
عمرو الرواي أو كما تعاملت الصحافة القومية والخاصة مع شخصية منصور حرب، أو
البرامج التي تبعث الحياة في القضايا الميتة، وكيف يمل الناس في المقابل من
القضايا فيتحولون عنها فيميتونها)، والذي يمكن أن يقتل أيضاً، ولهذا يشير أحمد عبد
المنعم رمضان إلى وجه منصور حرب(رسول الموت) الذي لو دققت في تفاصيله، لرأيت شبهاً
بينه وبين زياد (الإعلامي)، وربما لهذا كان زياد يراه بأنه صورة
"نيجاتيف".
ورغم كل تلك
التفاصيل التي تبدو واقعية تماما وعشناها خلال السنوات القليلة الماضية، فنحن أمام
نص فانتازي يمتلئ بالأفكار الغرائبية، بدءاً من فكرة الرسائل إلى الأقنعة التي
يرتديها الناس، وتختفي مع بدء ظهور رسائل ملك الموت، إلى قانون الدهشة ومنع تداول
الأدب (باعتباره أخباراً غير موثقة)، أو إعلان الدولة اكتفاءها من المواطنين وعدم
الحاجة إلى مواليد جدد، وربما تبدو أهمية هذه الأفكار الفانتازية، في القوسين
الذين تبدأ وتنتهي بهما الرواية، فقصة "الرسائل" ليست إلا فصلاً في حياة
هذه المدينة الغرائبية التي تسن فيها قوانين غريبة، وتستمرحتى بعد نهاية الرواية،
لذا يلجأ الراوي ـ وهو هنا المؤلف ذاته أحمد عبد المنعم رمضان ـ لقص حكايته على صبي المقهى عيد.
وهنا تبرز السلطة
الأخيرة ـ التي تبرر وجود المؤلف بذاته في النص الرواية ـ وهي سلطة الحكاية، التي
تنافس سلطة الإعلام وسلطة الموت وسلطة الكرسي (لهذا تمنع الحكومة الروايات)، ولهذا
يقص أحمد عبد المنعم رمضان روايته شفاهة على صبي المقهى، وربما على غيره، ولهذا يلملمها من على الأرصفة ومن فوق الطاولات،
فهكذا يحفظ حكايات الأشخاص من الضياع، مهما غيبها الموت أو أبادتها السلطة، أو
زيفها الإعلام