في الصفحة الأخيرة من
ديوانه "طغيان سطوة الطوايا"، يشير الروائي والناقد إدوار الخراط إلى أن
كل القصائد الواردة في الديوان هي مقطوعات من رواياته "رامة والتنين"، و"الزمن
الآخر"، و"يقين العطش"، و"ترابها زعفران"، وأنه أضفى عليها
إيقاعات جديدة ـ كانت كامنة في الأصل ـ كي تكتسب بذلك دلالات جديدة كانت كامنة في الأصل أيضاً.
تذكرت هذا وأنا أتتبع مسارات الشعر المتسرب
في نصوص المجموعة القصصية "كنائس لا تسقط في الحرب" للقاصة المصرية أريج
جمال والصادرة أخيراً عن دار "مصر العربية" بالقاهرة، والتي لا توجد
في اللغة الشعرية فحسب، بل في ـ أحايين كثيرة ـ في رؤيتها للعالم، من خلال منظور
شعري وليس سردياً فقط:
"سأخرج دفتر يومياتي
وأتلو كل شيء على سمع الله
كورد يعتقني من النار
وأقول لقد تغير كل شيء
كل شيء".
من الممكن أن نقرأ الفقرة السابقة باعتبارها
مقطعاً من أحد نصوص المجموعة، لكنها تبدو لي أقرب ما تكون إلى قصيدة النثر، بكل
سماتها، بما للغتها من خروج على النمطية المعيارية، وبما لجملها من طاقة إيحائية عالية، بالإضافة
إلى تحقيقها شرط بورخيس لصنعة الشعر وهو "العاطفة والمتعة"، فضلاً عن
قدرتها على الإدهاش عبر صور شعرية خالصة. تقول أيضاً:
"حين
يأتيني النوم
أفقد عقلي
بسرعة
أسمع الخطوات
البعيدة في الشوارع الجانبية
بلا مبرر واضح
الكلاب التي
تنبح
وكأنها أصيبت
بالفقد للتو".
يقول بورخيس
في كتابه "صنعة الشعر" الذي ضمنه محاضرات ست حول هذا الفن: "إننا نعرف
ما هو الشعر، نعرف ذلك جيداً إلى حد لا نستطيع معه تعريفه بكلمات أخرى، مثلما نحن عاجزون
عن تعريف مذاق القهوة، أو اللون الأحمر أو الأصفر أو معنى الغضب، أو حب بلادنا، هذه
الأشياء متجذرة فينا بحيث لا يمكن التعبير إلا بهذه الرموز المشتركة التي نتداولها،
وما حاجتنا إلى مزيد من الكلمات؟". ويبدو لي أن هذا القول ينطبق على المقطع
السابق وعلى غيره من مقاطع في المجموعة القصصية نرى فيها الكثير من الشعر الكامن.
وربما تعي
أريج هذا المعنى، وإن لم تصرّح به، لذا صدرت مجموعتها بمقطع آخر، ذا دلالة، سأتحدث
عنها لاحقاً:
"كيس
بلاستيكي على طريق سريع
وردي اللون،
ينبض في الأعالي
مرة تلو مرة
فرجة على
العالم، بلا ألم"
وفي ظني فإن
أريج، في هذه المجموعة، وفي مجموعتها الأولى "مائدة واحدة للمحبة"
أيضاً، تكسر الحاجز ما بين الشعر والقصة، ولا أعني هنا أنها تكتب "قصة
شعرية" ـ إذا كان هذا المصطلح يروق للبعض ـ لكن أقصد أنها تقارب الشعر في
كتابتها للقصة، وتقارب القصة بينما هي تكتب الشعر، دون تعمد، وهو ما يحتاج حساسية
خاصة في التعاطي مع اللغة والصورة والسرد، إنها ببساطة تحطم الحائط الرابع لكل
منهما، من الممكن أن نعتبر هذا سعياً لخلق فن جديد، أو مزيج من الفنين، لكن تفسيره
الأقرب يحيلنا إلى رؤية ولغة أريج، المحملتين بالطاقة الشعرية، والتي ربما إن
أعادت الالتفات إليهما لاكتشفت في كتابتها بعداً جديداً، لم تره أو تقدّره حق قدره
من قبل.
من جهة أخرى، بدت لي المجموعة القصصية
"كنائس لا تسقط في الحرب" أقرب لنص واحد طويل، أو عدة نصوص في حالة
واحدة، ويمكن رد هذا إلى سببين أولهما أن النصوص جميعها مروية بضمير المتكلم لذات واحدة في أزمنة وأمكنة مختلفة غير مرتبة لكنها تحمل نفس الهموم، ، وثانيهما وجود روابط بين أكثر من نص، بداية
من الحديث عن "فرانكفورت" في نصوص مختلفة انطلاقاً من الإهداء، مروراً
بفرجينيا وولف، وانتهاء بتكرار مصطلحات بعينها تمس الذات الراوية.
وفي ظني أن التصدير الذي وضعته الكاتبة للمجموعة،
هو عتبة النصوص كلها، والذي تتحدث فيه عن "كيس بلاستيكي على طريق سريع"،
يبدو جماداً لمن يراه من بعيد، "ينبض مرة تلو مرة"، إذن فهو كائن حي،
"وردي اللون"، ربما ليعطي إيحاء بأنه مؤنث، "فرجة على
العالم"، هو لا يتفاعل مع من حوله، بل يشاهد فقط ما يحدث وكأنه من عالم مواز
ولا ينتمي إليهم، "بلا ألم"، ربما لأن هذا العالم يراه جماداً بلا
مشاعر.
هذا "الكيس البلاستيكي"، الجماد،
المتوحد على ذاته، الذي يتفرج على العالم كأنه من كون آخر، يشبه إلى حد كبير بطلة
هذه القصص، التي لا نرى فيها حواراً إلا فيما ندر، بل مونولوج داخلي طويل يليق
بهذا "الكيس" الواقف على طريق العالم السريع يشاهد ما يحدث في صمت دون
أي رد فعل منه، بل إن أول جملة في القصص "تؤرجحنا العربة، تريد أن ترى من
سيذهب في النوم"، فالإرادة هنا منسوبة للعربة، والمفعول به هي الأنا الساردة
التي تستسلم لهذه الإرادة.
وهذا التماهي مع العالم والاستسلام لإرادته
وقوته يحضر في أكثر من نص، مثل قولها: "الآن هو مجرد لا شيء، وأنا أيضاً، لا
دليلاً واحداً على حضورنا، نحتاج إلى مركبة فضائية تتلصص على أوضاعنا من خارج
الأرض كي نصدق أننا كنا هنا"، والتلصص هنا يبدو لي أن الأنا الساردة هي من
تمارسه، سواء على ذاتها أو على عالمها، من مكمنها المعزول نسبياً، والذي لا يراه
أحد أو قد يتعاملون معه باعتباره مجرد "كيس" على الطريق، تقول: "ترتدي
ملابس عديدة كي يختفي جسدها الحقيقي، لن يروه لكنهم باستمرار سيظنون أنهم
يفعلون"، هل يمكن هنا أن نقول إن ثمة مفارقة بين "الملابس
العديدة"، و"الكيس البلاستيكي".
لهذا يغيب في هذه المجموعة الصوت، ويحضر
"الطنين" و"الدبيب" اللذين تهرب منهما، وتحضر أكثر من لغة:
"حضرت دروساً للغة الإنجليزية مع آخرين لا يتكلمون لغتها، تشعر أن لغتها
ستتخلى عنها ذات يوم"، لذا لا نرى المحادثات إلا في الأحلام أو عبر الواقع
الافتراضي (كانت تدير محادثات إنجليزية كاملة مع غرباء في المنامات)، وتقول أيضاً:
"طلبت من الله حياة خافتة دون صوت".
واللغة إذا كانت تعبر عن التواصل، فإنها ليست
كافية للحوار: "نحن جزر منعزلة، نملك أجهزة إرسال، لكننا لا نملك أي أجهزة
استقبال"، ورغم أنها ترى اللغة كافية للاستئناس "لا أحد يعرف لغتك في
الكون، لا أحد يؤنس وحدتك"، إلا أن الطلاقة في الحوارات نراها بلغة أخرى في
نصي فرانكفورت.
ولهذا فلا حوارات حقيقية في هذا النص إلا في العالم
الافتراضي أو الأفلام أو الأحلام أو عوالم الكتابة، التي تستبدلها بواقعها التي
تنأى عنه.
وعالم الأحلام يحضر بقوة في جل نصوص المجموعة
ليكمل الحكايات الناقصة، "في المنام أسمعنا نحدد موعداً للقاء"، وليحاول
الإجابة على الأسئلة المطروحة، وليعيد بناء العالم على طريقتها، ولهذا ترى
المنامات بالتوازي: "تكون في أكثر من منام في اللحظة الواحدة، كل منام
مستطيل، ويجاور مستطيلاً آخر تعيش هناك أكثر من الحياة"، ويغدو كأنه عالم
متكامل "في المنام رأت كل الصداقات التي كونتها"، بل إنها تستقوي به على
وحوش الواقع وما يمكن أن يفعلوه بها: "لاتخافي، ما أنت إلا حلم، لا أحد
يستطيع أن يحذف الأحلام من الوجود"، ومع ذلك لا تبدو الأحلام والمنامات حلاً
كافياً، تقول: "أحاول لمس يديه، فلا أصل إليهما وأنظر في عينيه فلا أرى أي
شيء"، وعندما حاولت أن تنقذ فرجينيا، لم تستطع أن تفيق لتفعل ذلك لأنها علقت
في الحلم، وكأنها هنا تكشف عن وعيها بأن الحلم سيظل عالماً موازياً غير حقيقي،
لكنه لا يصلح الأشياء المعطوبة
في عالم الأفلام، كما في قصة fin تشاهد اسمها بين أسماء عناوين الفيلم، ويكون كل
همها أن ينتهي الفيلم "نهاية بديعة"، وفي العالم الافتراضي تتحدث مع
"الدائرة" التي تكمل الفراغات في قصة حب غير مكتملة. أقوى هذه العوالم
وأهمها للذات الساردة هو عالم الكتابة، لأنه يقع بين الحياة والهاوية، ولهذا تحضر
فرجينيا وولف في النصوص، ولا يبدو الأمر لي مجرد تماهٍ مع شخصيتها، أو استحضار
لطريقة كتابتها أو أفكارها وسردها الباطني، بل يبدو أقرب إلى سؤال حول علاقة
الكتابة بالموت الذي تنهي به السطر الأخير من هذه المجموعة.
"الكتابة" في قصص أريج خلق، لهذا
فالأنا الساردة تحمل بها: "بطني تكورت وأشعر أن نصاَ كبيراً يكتبني، وأقرر أن
أسمي نصي الخاص فرجينيا"، والكتابة قوة وحياة "لأننا حين نكتب لا نعود
هشين أبداً، نصنع أيامنا من الفقرات، المدينة التي نعيش فيها من شكل الحروف،
السماء التي نخشع أسفلها من الوقع السمعي للكلمات"، ولهذا تغدو الكتابة
عالماً مستقلاً يكمل ما لا يحدث في العالم الحقيقي "كنت داخل النص
أحادثك"، وتصبح أيضاً مهرباً من قسوة الواقع "بدأت أكتب نصاً جديداً،
كنت أختبئ فيه داخلي"، الكتابة هي رد الفعل الإيجابي ـ ربما الوحيد ـ في هذه
المجموعة لأنها تشعر فيه بكينونتها، تقول في قصة باب من أحب في يوم الأحد:
"ينبغي أن أهدأ لأني الآن أكتب، وهذا دليل قاطع على وجودي"، لهذا تسعى
أن تصير "راهبة للكتابة".
في حوار قديم مع أريج جمال قالت: "أطيرُ مع الكتابة بجناح واحد، فينبت جناح آخر من مكان لا أعرفه، وأنجو"،
والنجاة التي تتحدث عنها هنا تعيدنا إلى فرجينيا التي لم تستطع أن تنجو رغم
الكتابة، لذا تقول الذات الساردة إنها لا تفهم أبداً "لماذا تأتي الهاوية قبل أن تأتي الكتابة". وهذا
السؤال يمكن اعتباره إجابة على سؤال: "لماذا فرجينيا؟"، ولماذا هذا
الحضور الطاغي لها في هذه المجموعة، هل كان تقاطعاً معها كما في رواية وفيلم
"الساعات"، الإجابة في ظني: لأن فرجينيا طرحت بانتحارها إجابة "مقلقة"
على سؤال الكتابة والهاوية، وتعتبر الساردة ذاتها ابنة لفرجينيا
"الكاتبة"، لكن ليس بالضرورة أن تحصل على نفس إجابتها، رغم أنها تسلك
نفس طريقها في الأسئلة؛ أيهما: الكتابة أم الهاوية؟
ومن الجدير بالإشارة هنا، أن العائلة تغيب في
هذه المجموعة القصصية، فنحن أمام ذات منغلقة على نفسها ـ ما عدا في نصي فرانكفورت
بما لذلك من دلالاته ـ إلا صورة سوداوية في قصة "صورة جديدة"، وظلال
للأب في بعض النصوص، لكنها في نص "موت فرجينيا" تقول: "لم أكن
يوماً ابنة لأحد، كنت ابنة نفسي، وابنة فرجينيا"، وهو ما يجعلنا نتساءل
أيضاً، هل كانت في النص تتحاور مع ذاتها (ابنة نفسي) أم فرجينيا؟.
يبقى سؤال أخير في هذه المجموعة حول اسمها
"كنائس لا تسقط في الحرب"، وهو المقتبس يتصرف من أحد نصوص المجموعة، فالكنائس
هنا تشير إلى المجتمع الغربي ـ بحسب النص ـ الذي وجدت فيه ذاتها وحريتها وصوتها
رغم جهلها لغته، لكن الحرب التي نراها في جل نصوص المجموعة لم تكن حرباً تقليدية،
بل كانت مع المجتمع والهوية والعالم وخيباته، بل مع الذات أولاً.