تبدأ رواية "مزاج حر" للروائي المصري محمد
الفخراني، والصادرة أخيراً عن "الدار المصرية اللبنانية" بالقاهرة،
بكاتب في بداية الأربعين ـ نكتشف فيما بعد أنه هو المؤلف ذاته ـ يتحدث عن حلمه
بالتجوال في العالم، كمتشرد متجوّل، بدون هاتف أو كاميرا أو طعام أو أدوية، فقط
أوراق وأقلام وملابس خفيفة في حقيبة قماشية على ظهره، وهكذا تبدأ رحلته السياحية حول
العالم.
هذه إذن رواية عن محمد الفخراني، وعن جولته فيما أحب
ويحب، جولة ـ لو شئنا الدقة ـ فيما أثار دهشته واستغرابه وشغفه، جولة في خياله،
لأنه في رحلته التي بدأت بقطار انطلق إلى العاصمة، لكنه بدأ يتوقف في مدن لم يكن
لنا أن نتخيلها، تنقل فيها عبر الزمان والمكان، حيث تلتقى السماء بالأرض عند نقاط
محددة كما كنا نتخيل في طفولتنا، تحدث جميع اللغات وقابل أشهر العشاق، لم يذهب إلى
المدن التي تخوض حروباً ضروساً ـ ما قد يغري بعض الكتاب بدراميتهاـ لكنه ذهب إلى
عصور النهضة، قابل عشاقاً وفنانين وشخصيات خيالية لم تغير شيئاً في العالم سوى
أنها تركت ما يثير الدهشة والخيال.
يمكن تقسيم ما قابله الراوي في رحلته إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: شخصيات حقيقية في لحظات
فارقة من حياتها مثل عباس بن فرناس أثناء محاولته تحقيق حلم الطيران، وليوناردو
دافنشي لحظة رسمه لوحته الشهيرة الموناليزا، وأرشميدس لحظة اكتشافه قانون الطفو، والملاحظ
هنا أن الراوي لا يكتفي بالفرجة على التاريخ بل يدخل ليغيّره، فهو لا يترك ابن
فرناس يسقط كما روت حوادث التاريخ، بل نراه يطير، بل ويتبعه في كل تجواله حول
العالم، كأن استمرار الطيران جزء من تحقق شرط التجوال وهو استمرار الدهشة.
القسم الثاني: شخصيات من خيال مؤلفين آخرين، مثل دون
كيخوته، وعبد ربه التائه، وشهرزاد، وأحدب نوتردام، وفيها يحاول تغيير مسارها
لإنقاذ حيواتها من مصائرها المأساوية التي وُضعت لها، كأنه يحاول منحها حياة
مستقلة عن الحياة التي منحها لها مؤلفوها، وهو ما يمكن أن نلاحظه بشكل أوضح أثناء
لقائه روميو وجولييت، فنحن نقابل ـ معه ـ نسختين، النسخة الأولى ممثلين يؤدون
دوراً في المسرحية الشكسبيرية، والنسخة الثانية تبدو حقيقية يتحادث معها ويحاول أن
ينقذها من موتها الذي قدّره الكاتب لها، ولعل هذا يحيلنا إلى حوار مهم يورده
الراوي مع البنت السمكة عن المبدع وإذا كان سيدمر شيئاً جميلاً قد صنعه، تقول:
"أثق أن المبدع الذي أبدع كل هذا الجمال لن يتخلّى عن إبداعه، لا أتحدث عن
فكرة دينية، أو منطق، أو كلام عقلاني، لكن عن الجمال". وهذه الفكرة تلح على
الراوي في أكثر من موضع في الراوي لذا يحاول تغيير ما اتُّفق عليه تاريخياً
وعقائدياً وعقلياً، في انحيازه للجمال والحب.
ولعل هذا يحيلنا إلى القسم الثالث من الشخصيات التي
قابلها الراوي، وهي شخصيات خلقها من قبل في روايته الجميلة "ألف جناح
للعالم"، يقول الفخراني في روايته "أجمل أمنياتي أن أرى من
أبدعني"، لذا يقرر أن يحقق هذه الأمنيات لشخصيات روايته السابقة، لكن الشخصيات
لا تعرفه، وإن كانت إحداها تحس به، بما لذلك من دلالات صوفية، وهو ما دفعني لإيراد
مصطلح "الخلق" هنا عندما أتحدث عن علاقته بشخصياته، إذ يبدو كأنه يطرح
فكرة التخيير والتسيير، ويتحدث عن مواقف لم يكتبها في الراوية، كأنه يترك لها حرية
اختيار حياتها، كأن حياتها اتخذت مساراً بعيداً عنه، بل يكتشف بعد حوار معها أنها
تعرف عنه أكثر مما يعرف عنها.
القسم الرابع: هي شخصيات من الميثولوجيا الدينية، وهي
شخصيات مؤثرة بشدة في الديانات السماوية الثلاث، السيدة مريم العذراء، والنبي
موسى، وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقابيل
وهابيل ثم ينتقل إلى الجنة، التي يغادرها في نهاية الرواية إلى الأرض، بما لذلك من
دلالات دينية واضحة، حيث الخيال هو الجنة، والتي غادرها في النهاية ليستقر في الأرض بواقعيتها
وبؤسها، في محاكاة لقصة النبي آدم عليه السلام، وخروجه من الجنة، لكن الفارق أن الراوي
اصطحب جزءاً من خياله معه كرصيد إضافي للحياة، عندما يمر عباس بن فرناس يطير، فيرد
على ما يعتقد أنه ابتسامة الله، إنه الإيمان بدور الخيال والحكي والدهشة والحب في
استمرارية الحياة.
القسم الخامس: هو شخصيات من ابتكار المؤلف أو جمادات: مثل القصة
والرواية والشعر والموسيقا مثل الفتاة السمكة،
والمهرج، والفتاة الكمان، والبائع المتجول، وملاك المشي وشيطان العرقلة، وهي
شخصيات تشبه إلى حد كبير شخصيات المؤلف الأثيرة في مجموعاته القصصية، وروايته
السابقة، وإن كان هذا يحيلني إلى إشارة مهمة حول ترابط عالم محمد الفخراني السردي،
فإذا كانت هذه الشخصيات تربط الروية السابقة بهذه، فإن هذه الرواية تنتهي بذكر
الجنة، والتي تبدو جزءاً من تكوين روايته القادمة، التي أسعدني الحظ وقرأت مقاطع
منشورة من مخطوطها.
لا يمر تجوال الفخراني في العالم هباء، ففي كل لقاء له
مع إحدى الشخصيات نجد سؤالاً مدهشاً، تتساءل شهر زاد على سبيل المثال: "هل
أنا من حكيت الحكايات أم هي من حكت عني؟"، ويبدو لي أن محمد الفخراني هو من
يطرح هذا السؤال، بولوجه إلى دم الحكايات، حكاياته وحكايات غيره، وهذا السؤال الدائري
يشبه اللعبة، وهو يتكرر بصيغات فلسفية مختلفة على مدار الرواية، لكن الكاتب يحب
هذه اللعبة، بل يرى أن الكتابة في حد ذاتها لعبة، لدرجة أنه يسمي إحدى مجموعاته
القصصية الجميلة "قصص تلعب مع العالم"، ويرد على لسانه في هذه الرواية
كثيراً قوله "أحب هذه اللعبة". لكن الحكي في هذه الرواية يتجاوز كونه
لعبة مسلية إلى كونه حياة، فالحكايات أنقذت روح شهرذاد، وشفت شهريار، وحوّلت مسرور
من سيّاف قاتل إلى عازف موسيقي.
وحين يقابل الشيخ عبد ربه التائه، الذي يصف ملامحه بأنها
قادمة من تلك المسافة بين السؤال والإجابة، ويمنحه فرصة سؤال واحد، يسأل عن مفتاح
أسرار الوجود، وتكون الإجابة هي "الحب"، والحب ـ مثله مثل الشغف ـ من
مفاتيح هذه الرواية، ويكاد يكون الشيء الوحيد المكرر بصيغ متكررة في هذه الرواية
هو ما يقرأه الراوي على جدران كل البلدان التي زارها "فلان يحب فلانة"،
بلغات مختلفة، يوردها الفخراني بالعربية وبلغاتها الأصلية سواء كانت الإسبانية أو
الهندية أو الإيطالية أو الصينية أو الإنجليزية، وغيرها، كأنه يريد أن يقول إن
الحب هو اللغة الوحيدة المشتركة، التي تجمع كل هذه الأجناس والأعراق والبلاد وأن
القلب هو الذاكرة الحقيقية لنا، ولهذا أيضاً يحاول أن يتدخل لإنقاذ قصص حب روميو
وجولييت من الفشل، وأحدب نوتردام، كأن مهتمه هي البحث عن الحب في العالم وإنقاذه،
بل إن يفاجأ أن شخصية روايته السابقة "القبطان"، كان يحب سيمويا، دون أن
ينتبه هو كمؤلفٍ إلى ذلك، وكأن الحب يتجاوز القدر، أو حتى ما يصل إليه خيال
المؤلف، ويصنع قدره وتاريخه بنفسه.
نحن إذن أمام عالم محمد الفخراني، وعندما أقول إن
الرواية تجوال في خياله فأنا أقصد ذلك، لأنه يأخذنا من أيدينا ويسحبنا في رحلة غرائبية
مثيرة مدهشة، نراه يأخذ قطعة صغيرة من السحاب يغمسها في النهر ويشرب، أو يقابل
بيتاً على شكل قطة، نرى عالمه الأثير، سواء الذي قرأه أو رآه أو شاهده أو تعمله أو
أحبه، عالمه الذي كلمات سره هي "الدهشة والحب والشغف والجمال"، فالحب ـ
كما يقول ـ "ليس إلا لحظة استثنائية
من الدهشة"، والدهشة سبب للحياة أو كما يقول "اندهش تحيا"، والشغف
كان مدخل روايته السابقة "ألف جناح للعالم"، حيث صدّرها بقوله "لا
تفقد شغفك"، كأنه يريد أن يقول لا تفقد حياتك. والجمال هو الطبيعة في
بدايتها، قبل أن تدخل فيها يد الإنسان بالتغيير والتبديل والإضافات. طبيعة على
سجيتها، كما خلقها الله، وكما يتخيلها ويراها، لأن سحرية الأشياء في عاديتها كما
أشار في أكثر من موضع في الرواية.
يقول الكاتب في روايته إن "عقل الإنسان هو أكثر
مكان يتسع للمشي، فلا نهاية له"، وهذه الرواية المدهشة التي اكتشفنا عالمنا
مرة أخرى فيها، وأعادت تشكيله، تجوال مذهل في عقل وخيال محمد الفخراني، فيا لها من
دهشة.